حكم الاقتداء بالإمام عبر الوسائل الحديثة من التلفاز، والمذياع والاتصال الشبكي، وذلك بأن نقتدي في صلاة الجمعة أو التراويح بإمام الحرم المكي ــ مثلاً ــ أو بإمام مسجدنا، ونحن في بيوتنا؟

الجواب:

الجماعة لغةً: من الجمع. بمعنى الضم والوحدة والاتفاق، ومنه الاجتماع ضد التفرق والفرقة، والإجماع، والجماعة طائفة من الناس يجمعها غرض واحد، وصلاة الجماعة أن يتم اقتداء واحد أو أكثر بإمام، فتتابعه في أفعاله، فتلك الجماعة في اللغة، ولا يختلف معناها في الاصطلاح، ونحن هنا نتحدث عن ميزان صلاة الجماعة (أي منهجية الاجتهاد فيها) وكيفية صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجماعة، ثم أتبعها بما ذكره الفقهاء، وما اتفقوا عليه، وما اختلفوا يه، ثم بيان الرأي الذي يرجحه الدليل.

أولاً: فقه الميزان في صلاة الجماعة هو أنها من الشعائر والعبادات المحضة التي ميزانها التوقف والاتباع، كما قال صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلّي”، وبالتالي فلا يجوز إحداث أي شيء إلا بدليل صحيح صريح.

وبناءً على ذلك فلا تجوز تغيير هيئة الجماعة، وكيفيتها إلا بدليل صحيح صريح، وليس للاجتهاد العقلي مجال فيها، فليست مثل العادات والمعاملات التي ميزانها التعليل والاجتهاد.

ثانيًا: الذين رووا صلاة الجماعة لم ينقل أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاز صلاة الجماعة والجمعة في أماكن متباعدة حتى ولو سمعوا النداء، ولو كانوا معذورين، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولّى، دعاه، فقال:” هل تسمع النداء بالصلاة؟” قال: نعم، قال:” فأجب”، وروى أحمد وأبو داود، وابن ماجه بأسانيد صحيحة أن ابن أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال:” هل تسمع النداء؟” قال: نعم، قال: “لا أجد لك رخصة”، وفي رواية صحيحة عند أحمد قال ابن أم مكتوم: إن بيني وبين المسجد نخلاً وشجرًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟”، قال: “أتسمع الإقامة؟” قال: نعم: قال: “فأتها”.

نحن هنا نستطيع أن نستدل بهذه الأحاديث علة عدم جواز الاقتداء عن بعد ــ ولو كان متوسطًا ــ حتى مع سماع الأذان والإقامة، ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث الصحيحة أنها جمعت أعذارًا كثيرة، ومع ذلك لم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصلي المعذور الأعمى أن يصلي في بيته وحده، أو أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام يسمع الإقامة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لأطراف المدينة أن يصلوا جماعات مع أئمتهم، كما يدل على ذلك حديث معاذ رضي الله عنه.

وقصدنا بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه أن يقتدي به ما دام يسمع الإقامة، وهذا دليل على أن البعد المكاني غير المتصل بالإمام مانع من الاقتداء، ويؤكد هذا المعنى أيضًا الحديث الآخر الذي رواه البخاري ومسلم عن عتبان بن مالك الأنصاري قال: كنت أصلي لقومي بني سالم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أنكرت بصري، وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فلودت أنك جئت فصليت في بيتي مكانًا حتى أتخذه مسجدًا، فقال: “أفعل إن شاء الله، فغدا عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر معه بعد ما اشتد النهار، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال: “أين تحب أن أصلي من بيتك؟” فأشار إليه من المكان الذي أحبَّ أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، ثم سلًم، وسلمنا حين سلم”.

وحل شاهدي هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن له بأن يصلي بصلاة مسجد قومه، الذي تفصله السيول فقط، فهذا دليل آخر على أن الجماعة أو الجمعة إنما تتحقق إذا كان مكان واحد متصل (أو في حكم الاتصال) يجمع الإمام والمأموم.

وفي هذا رد واضح وبين على عدم جواز الاقتداء وراء المذياع أو التلفاز أو وسائل الانترنت ما دام لا يجمع المقتدي بإمامه مكان واحد متصل، أو في حكم الاتصال.

أقوال الفقهاء في البعد المكاني:

فقد اتفق الفقهاء ـــ من حيث المبدأ ـــ على أن من شروط صحة الاقتداء عدم وجود فاصل كبير بين الإمام والمأموم، “وهذا الشرط محل اتفاق بين فقهاء المذاهب في الجملة، وإن اختلفوا في بعض الفروع والتفاصيل”.

بعد المسافة:

لا يضر البعد بين الإمام والمأموم ما دام المأموم يرى الإمام، أوْ مَنْ وراءه من الصفوف، أو يسمع التكبير، وهما في مسجد واحد، حيث يصح الاقتداء عندئذ، وأما خارج المسجد فقد اختلفوا اختلافًا كبيرًا، كلنهم متفقون على أن الفاصل الكبير مثل النهر الكبير بشرط أن يكون المأموم على اطلاع بحركات إمامه مباشرة أو عن طريق رؤية الصفوف الخلفية، وكذلك اتفقوا على اتحاد المكان، فقد ذكر بعض الفقهاء مثلاً: أن وجود حائل بين الإمام والمأموم يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه يمنع صحة الاقتداء به، لقول عائشة رضي الله عنها لنسوة كن يصلين في حجرتها:” لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب”.

جاء في الموسوعة الفقهية” يشترط لصحة الاقتداء أن يجمع المقتدي والإمام موقف واحد، إذ إن من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان، كما عهد عليه الجماعات في الأعصر الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتباع، فيشترط ليظهر الشعار، وللفقهاء في تطبيق هذا الشرط تفصيل، وفي بعض الفرع خلاف.

والذي أود أن أنبه عليه أن بعض أقوال الفقهاء في اقتداء بعض البيوت حول الحرم بإمامه لا ينبغي ان يستشهد به على صحة الاقتداء بالتلفاز والانترنت ونحوهما؛ لوجود فوراق مؤثرة بينهما.

وبذلك تبين لي بوضوح أنه لا يجوز الاقتداء بإمام الحرم، أو غيره عن طريق الإذاعة، أو التلفاز، أو نحوهما لعدم وجود مكان واحد متصل، أو في حكم الاتصال يجمع بين الإمام والمأموم في هذه الحالة، ولنا فيما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم بشأن عِتبان أن يصلي في بيته قدوة، ولا يجوز لنا تجاوز ما وردت به السنة الصحيحة، ولنا مندوحة وعذر ـــ في ظل تفشي وباء كورونا ــــ في أن نصلي في بيوتنا منفردين، أو نقيم صلاة الجماعة في الفروض والتراويح داخل البيت بمن حضر، والله تعالى أعلم بالصواب.

هذا والله أعلم بالصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

        كتبه الفقير إلى ربه

                            أ.د. علي محيى الدين القره داغي

 الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

وأستاذ الشريعة والاقتصاد الإسلامي بجامعة قطر

 الدوحة في 08 شوال 1441هـ  الموافق 31 May 2020  
آخر الفتاوى