فتوى حول: حكم القروض الشخصية الميسرة التي يمنحها البنك المركزي العراقي

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد

فقد وجهت إلي استفسارات وأسئلة من عدد من أصحاب الفضيلة العلماء في العراق واقليم كوردستان ، حول مبادرة البنك المركزي العراقي في دعم المشروعات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة ولتلبية الطلبات على القروض الشخصية الميسرة التي تشمل أيضاً موظفي المصارف الخاصة، كما جاء تحديداً في الكتاب الصادر من البنك المركزي (العدد6/5/3178) بتأريخ 10/11/2021م ، حيث نص على الآلية الآتية:

1- لا يتجاوز مبلغ القرض الواحد (15.000.000) دينار (خمسة عشر مليون دينار) بلا فائدة ، مع استقطاع عمولة إدارية مرة واحدة قدرها (4%) من مبلغ القرض بنسبة (2%) لصالح البنك المركزي العراقي ، ونسبة (2%) لصالح المصرف، وبمدة سداد لا تتجاوز الـ (5) سنوات للموظفين العاملين في مصارفكم وبالضمانة التي ترونها مناسبة (توطين الراتب أو كفالة موظف حكومي).

2- يُشمل بالقرض مَنْ لا يتجاوز إجمالي راتبه بضمنها جميع المخصصات التي يتقاضاها مبلغ (1) مليون دينار، وتكون الأولوية لهذا النوع من القروض للموظفين ذوي الرواتب المنخفضة.

3- لا يتجاوز مبلغ الاستقطاع الكلي من الراتب المستفيد عن نسبة الـ (50%) من إجمالي الراتب ويجوز تخفيض مبلغ القرض وفقاً لذلك.

4- يطلب المصرف سلفة خاصة باسم ( القروض الشخصية الميسرة ) بما لا يتجاوز مبلغ (500) مليون دينار (خمسمائة مليون دينار).

5- يقدم المصرف كشوفات تفصيلية كاملة عن المستفيدين خلال شهر من تأريخ تغذية حسابه المفتوح لدى هذا البنك، فضلاً عن إرسالها على شكل إكسل إلى البريد الإلكتروني الخاص بهذه الدائرة وهو… .

6- استناداً إلى التعليمات الخاصة بمبادرة البنك المركزي العراقي المرقمة 6/5/2553 في 29/12/2020م سيتم فرض غرامة تعادل نسبة (1%) على كامل مبلغ التمويل، وفائدة بنسبة (5%) سنوياً على المدة التي لم يستخدم بها المبلغ المسحوب، وتحتسب الفائدة منذ تأريخ تغذية الحساب الجاري بالمصرف والمفتوح لدى البنك المركزي.).

الجواب:

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد

فإنني أؤكد بداية على مجموعة من القضايا المتفق عليها -ولو في الجملة- للوصول إلى الحكم الخاص بهذه النازلة .

أولاً : إن مما لا يخفى على أحد من العارفين ما ذكره القرآن الكريم حول الربا ، حتى وصف الله تعالى الاستمرار فيه بالحرب ، وخيّر أكلته بين الإيمان الصادق الذي يمنعهم من الربا ، وبين الحرب من الله فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) ([1]) .

ولذلك أناشد المسؤولين في العراق وغيره أن يبدؤوا بخطة مدروسة متأنية للخروج من هذا الوباء العظيم الذي سماه الله تعالى في آية أخرى بالمحق في البركات فقال تعالى : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ) ([2])، ولا سيما أن دستور العراق ينص على أن المرجعية الأساسية لقوانينه هي الشريعة ، وأنه لا يجوز إصدار قانون يخالف ثوابتها ، ومما لا شك فيه أن حرمة الربا من ثوابت الإسلام التي لم تختلف فيها جميع المذاهب الفقهية سنة وشيعة .

ثانياً : بالنسبة للجواب عن السؤال المطروح نقول :

1) أن مما اتفق عليه العلماء أن أية زيادة مشروطة على الأجل في القروض فهي محرمة وربا قلّت أو كثرت ، وهذا ما نص عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ( قرار رقم 10(10/2) ، وهذا نصه : (إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمر الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الآخر 1406هـ، الموافق 22 – 28 كانون الأول (ديسمبر ) 1985م، بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر، وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث، وبعد التأمل فيما جرَّه هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئياً وكلياً تحريماً واضحاً بدعوته إلى التوبة منه، وإلى الاقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قلّ أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين، قرر ما  يلي:

أولاً: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حلَّ أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد. هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً.

ثانياً:  أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام هو التعامل وفقاً للأحكام الشرعية.

ثالثاً:  قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التي تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كي لا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته والله أعلم ؛؛) .

2) غير أن الفقهاء المعاصرين فرقوا بين زيادة تؤخذ على القرض لأجل الزمن ، وبين عمولات مفصولة عن عقد القرض تؤخذ على العمل والاشراف والإدارة ، حيث إن الأول محرم مهما كان قليلاً أو كثيراً ، وأن الثاني جائز بالشروط والضوابط ، وهذا ما صدر به قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ( قرار رقم 13(1/3) وهذا نصه : ( إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407هـ، الموافق 11 – 16 تشرين الأول ( أكتوبر ) 1986م، بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، قرر ما  يلي:

أ ـ بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية:

أولاً: يجوز أخذ أجور عن خدمات القروض على أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.

ثانياً: كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً).

ثالثاً: الفتوى الخاصة بالسؤال المطروح :

أولاً: الملاحظات العامة:

1- وبناء على ما سبق فإن التغيير في الحكم لم يتحقق ؛ لأن الزيادة على القروض سواء سميت فائدة ، أم رسوماً ، أم عمولات فهي من الربا المحرم ، فكل قرض جرّ منفعة مشروطة فهي ربا بالإجماع .

2- إن الحكم الشرعي من حيث حرمة الزيادة لا يختلف عن كون الزيادة على القرض مرة واحدة ، أو مستمرة ، وإن كانت الحرمة في الاستمرار أعظم وأكبر .

3- إن قرار البنك المركزي يوزع الفائدة إلى قسمين : 2% للبنك المركزي و2% للمصرف المدير، وكنا نتمنى أن يتنازل البنك المركزي عن الفائدة وعندئذ كان يسهل علينا تكييف الأمر بشكل أكثر توسعاً من الحالة الراهنة المطبقة فعلاً .

4- من المعلوم للسادة (البنك المركزي العراقي) أن الفوائد الربوية هي أحد أهم الأسباب للتضخم والبطالة ، وللأزمة الاقتصادية، ولذلك إذا جاءت الأزمة الاقتصادية تسارعت البنوك المركزية في العالم الرأسمالي وغيره إلى تخفيض قيمة الفائدة إلى أدنى مستوياتها مثل 0.25% بل إلى الصفر في بعض الأحيان ، بل إلى (فائدة سالب) في أحيان أخرى ، وذلك بعد الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008م ، ولا سيما في ظل مضاعفة الديون العالمية ، وبلوغها إلى أكثر من 310 تريليون دولار أمريكي في عام 2020م حسب تقرير معهد التمويل الدولي.

وقصدي من ذلك أن بلداً مثل العراق العزيز -الذي دمّرته الحروب طوال عدة عقود ، ودمّر اقتصادها الفساد المنتشر ، وأصبح معظم العراقي فقيراً ، وأمياً ، ولا يملك الغذاء الكافي ولا الدواء الشافي، ولا شرب الماء النظيف ، وانتشرت البطالة والفوضى بشكل مخيف ، فقد أثبت تقرير صادر عن الأمم المتحدة يقدر عدد الفقراء العراقيين في العام 2020م بنسبة لا تقل عن 40% – فإنه أحوج إلى أن تكون الفائدة صفراً نظراً لما ذكرناه ، بل الأهم من ذلك أن الفائدة الربوية تتعارض مع ثوابت شريعة الإسلام ، بل مع الدستور -كما سبق- .

وأيّاً ما كان ، فإن هذه الزيادة المذكورة في كتاب (البنك المركزي العراقي) داخل في الربا المحرم بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، وحسب قرارات المجامع الفقهية ، ولا تُحلّها تسمية الفائدة بالرسوم أو العمولات الإدارية ، فالعبرة بالواقع وليست بالتسمية المجردة ، فقد سميت الخمور المحرمة بالمشروبات الروحية فهل تغير هذه التسمية حكمها الشرعي للمسكرات ؟!

ولكن في حالة وجود الضرورة فإن المضطر يجوز له ما لا يجوز لغيره، فقال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ([3]) .

ثانياً: الفتوى:

وتبين لنا من خلال كتاب البنك المركزي العراقي أن العمولة هي 4% من مبلغ القرض وأنها لمرة واحدة ، وانها موزعة على البنك المركزي العراقي حيث له 2% ، و2% لصالح المصرف المدير ، وأن مدة السداد خمس سنوات ، وبناء عليه فإن الفتوى بما يأتي:

أولاً: إن نسبة 2% التي يأخذها المصرف المدير مباحة له في مقابل الأمور الإدارية من ترتيب الملفات وتحصيل الأقساط وتجهيز الكشوفات ونحوها من الإجراءات والمتطلبات الإدارية .

والسبب في جواز ذلك ان الصمرف المدير ليس المقرض في هذه العملية ، وإنما هو مجرد وسيط ووكيل عن البنك المركزي العراقي ، وعن المقترضين الذين يأخذون هذه القروض، وإنما المقرض هنا هو البنك المركزي العراقي.

ثانياً: وأما النسبة 2% التي يأخذها المقرض (البنك المركزي العراقي) لمرة واحدة ولمدة خمس سنوات، يعني أن ما يأخذه هو ( 0.20% أي خمس الواحد بالمائة ) ، وبالتالي فهي أقل من المصروفات الإدارية قطعاً في جميع الإدارات ، ولذلك يتسامح فيه.

ثالثاً: أن ما ورد في البند رقم (6) في كتاب البنك المركزي العراقي ، مخالف للشريعة ، ولكنه أمر احتمالي ، لذلك يجب على المقترض أن لا يقع في هذه الدائرة المحرمة.

رابعاً: وبناء على كل ما سبق فإنه يجوز أخذ هذه القروض بالآلية المذكورة في كتاب البنك المركزي العراقي المرقم (6/5/3178) الصادر في 10/11/2021م ، الذي ذكرنا نصه في السؤال ، بشرط واحد وهو العزم والإرادة وبذل كل ما في الوسع في عدم الوقوع في المخالفة الشرعية الجسيمة في البند رقم (6) حول غرامات عدم استعمال القرض.

هذا والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه الفقير إلى ربه

أ.د. علي محيي الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


([1])  سورة البقرة / الآية 278-279

([2])  سورة البقرة / الآية 276

([3])  سورة البقرة / الآية 173

آخر الفتاوى