حكم مطالبة رب المال بردّ رأس مال المضاربة في حال تعدي المضارب (العامل بالمال) ومخالفة الشروط ونقضها، ومدى جواز حقه في الربح، أو بعوض المثل في مقابلة حبس ماله الذي فاته بمنعه.

فتوى حول:

حكم مطالبة رب المال بردّ رأس مال المضاربة في حال تعدي المضارب (العامل بالمال) ومخالفة الشروط ونقضها، ومدى جواز حقه في الربح، أو بعوض المثل في مقابلة حبس ماله الذي فاته بمنعه.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

فقد وردتني عدة أسئلة حول حكم مطالبة المضارب (العامل بالمال) برد رأس المال كاملاً في حال مخالفته لشروط عقد المضاربة أو نقضها، وهل يجب استعادة رأس المال بعملة ثابتة؟ وهل لربّ المال حق في ربح هذا المال إذا ستعمله المضارب في تجارة رابحة؟ وماذا عن مطالبة رب المال بعوض عن الضرر الذي لحق بسبب حبس المال من قبل المضارب (العامل بالمال) وعدم رده في وقته.

وللإجابة عن ذلك، نقول:

يقصد بالمضـاربـة: شركة بين رأس مال شخص (يسمى رب المال) وعمل شخص أخر يسمى (المضارب أو العامل على المال) على أن يكون لكل منهما نصيب شائع (نسبي) من الربح الذي يتحقق، وإذا وقعت خسارة يتحملها رب المال، ويخسر المضارب عمله، وقد سميت بذلك من الضرب في الأرض للتجارة برأس المال.

وتسمى أيضًا شركة القراض أو المقارضة، والقرض في اللغة: هو القطع، وسبب هذه التسمية أن رب المال يقطع جزءا من ماله ليضعه مع المضارب لاستثماره، حيث إنها تجمع بين كل من الخبرة والإدارة، من شخص، والمال من شخص آخر.

والأدلة على مشروعيتها كثيرة، وعليها إجماع الفقهاء.

تقسيمات المضاربة:

هناك تقسيمات للمضاربة،

أ) فتقسم باعتبار نوعية تصرف المضارب إلى: (1) مضاربة مطلقة، وهي التي يفوض فيها رب المال: المضارب في كل التصرفات المطلوبة دون تقييد بشروط وقيود. و (2) مضاربة مقيدة، وهي التي وضع فيها ربّ المال قيودًا وشروطًا على المضارب، وقد يكون التقييد بمشروع معين.

ب) وتقسم كذلك باعتبار العدد إلى: (1) مضاربة مشتركة، وتدار على أساس وجود حساب مشترك لأكثر من رب المال دون تحديد رب المال، وهذا مثل الودائع الاستثمارية، وهي في الوقت نفسه مضاربة مطلقة. (2) ومضاربة خاصة بفرد، أو أكثر على أساس التعيين.

شروط المضاربة وأحكامها:

للمضاربة شروط خاصة برأس المال وبالربح، وأحكام خاصة بالمضارب، نذكرها بإيجاز شديد:

أ- يشترط في رأس المال أن يكون نقدًا عند جمهور الفقهاء، حتى لو كان سلعة يجب أن تقوم بنقد البلد، وان يكون معلومًا معينًا، ولا يجوز أن يكون دينًا لرب المال على المضارب، أو غيره، ويشترط كذلك أن يمكن المضارب من التصرف فيه وذلك بتسليمه إليه كله، أو بعضه.

ب- ويشترط في الربح أن يكون توزيعه بعد سلامة رأس المال، وعلى أساس نسبة شائعة من الربح – متوقع – لا على أساس مبلغ مقطوع أو نسبة من رأس المال.

الضمان في المضاربة:

إن من أهم أحكام عقد المضاربة الأساسية أنه لا يجوز تحديد الربح بشكل قطعي، ولكن يجوز الاتفاق على أساس نسب شائعة من الربح لكل طرف على أن يتم توزيع الأرباح المحققة وفقًا لذلك، وأن الخسارة على رأس المال المستثمر إلاّ في حالات التعدي، أو التقصير، أو مخالفة الشروط، وأنه لا يجوز اشتراط الضمان على المضارب (العامل بالمال)، حيث تصبح المضاربة بهذا الشرط باطلة.

فساد المضاربة: وتفسد المضاربة بالشروط المخالفة لمقتضى العقد، مثل الشروط التي تنهي المشاركة، أو تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان الأرباح في كل الأحوال.

مصاريف المضاربة:

إن مصاريف المضاربة إذا كانت تخص عمليات الاستثمار فتكون من أموال المضاربة، وأما المصاريف الشخصية للمضارب (العامل بالمال) عليه أن يتحملها بنفسه، ويجب عليه أن يتولى الأعمال التي يتولاها المستثمرون مثله حسب العرف التجاري ولا يستحق أجرًا على ذلك، فإذا استأجر لذلك فتكون الأجرة من ماله الخاص، وليس من مال المضاربة.

توزيع الأرباح في المضاربة:

ويكون على أساس نسب شائعة من الربح وحسب الاتفاق مثل 50% لكل واحد منهما، ويجوز أن توزع على أساسين، بأن يتفقا على أن النسبة بينهما هي 50% ولكن في حالة ما إذا زادت الأرباح لرب المال أكثر من 10% فإن الباقي يوزع على أساس 95%للمضارب و5% لرب المال ـ مثلاً ـ من باب التحفيز.

تعدي المضارب (العامل بالمال) ومخالفة الشروط ونقضها:

إذا قامت البينة على نقض المضارب (العامل بالمال) شرطًا من شروط المضاربة حينئذ تنقلب يد العامل بالمال الى يد ضمان، وتصبح يده على المال يد غصب ويلزمه إرجاع رأس المال مباشرة.

مطالبة المضارب (العامل بالمال) بعوض المثل بسبب حبس المال أو مخالفة الشروط:

أ- حكم أخذ ربح النقود (مال المضاربة) المغصوبة لصالح مالكها (رب المال):

ذكر ابن قدامة مسألة لها أهمية حيث قال أنه يجوز: (وإن اتجر بالدراهم بأن غصبها واتجرها، أو عروضًا فباعها، واتجر بثمنها.. فالربح لمالكها، نقله الجماعة واحتج بخبر عروة بن الجعد، وهذا حديث تعذر رد المغصوب إلى مالكه، ورد الثمن إلى المشتري، قال جماعة منهم صاحب “الفنون” و “الترغيب”: إن صح الشراء، وقال الشريف وأبو الخطاب: إن كان الشراء بعين المال، فعلى الأول هو له، سواء قلنا: يصح الشراء أو لا، وسواء اشتراه بعين المال، أوفي الذمة، ونقل حرب في خبر عروة إنما جاز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جوزه له، وحيث تعين جعل الربح للغاصب، أو المغصوب منه، فجعله للمالك أولى، لأنه في مقابلة ماله الذي فاته بمنعه، ولم يجعل للغاصب شيء منعا للغصب، وعنه: يتصدق به، نقلها الشريف لوقوع الخلاف فيه (وإن اشترى في ذمته ثم نقدها فكذلك) أي: فالربح لربه هذا هو المشهور ن لأنه نماء ملكه، أشبه ما لو اشتراه بعينه) يراجع: المبدع في شرح المقنع (5/187) .

ب- حكم مطالبة رب المال بعوض المثل:

لو تتبعنا أقوال الفقهاء في المسائل المنثورة الخاصة بعوض المثل، لوجدناها تدل على أن معياره قائم على ما يحقق به العدالة.. يقول ابن تيمية:(عوض المثل) أمر لابد منه في العدل، الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة.. ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله، وهو نفس العدل الذي أمر الله تعالى به في آيات كثيرة، ونفس العرف الداخل في قوله تعالى: (..يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ..) سورة الأعراف الآية 157 وقوله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ..) سورة الأعراف الآية 199 (وهو معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل وأنزل له الكتب..). يراجع: مجموع الفتاوى (29/520).

ولذلك، يدخل في اعتباره كل الظروف والملابسات، التي تحيط به، ويراعى فيه الزمان والمكان والعرف السائد، ورغبات الناس، ولذلك يقال: قيمة المثل: ما يساوى الشيء، في نفوس ذوى الرغبات، مع ملاحظة الزمان والمكان والعرض والطلب، ونحو ذلك يراجع: مجموع الفتاوى (29/522- 525).، يقول السيوطي: (يختلف باختلاف المواضع، والتحقيق أنه راجع إلى الاختلاف في وقت اعتباره، ومكانه..). يراجع: الأشباه والنظائر ص (367)، والقواعد للزركشي(1/399).

وبعبارة موجزة: تراعى في عوض المثل جميع الأمور المؤثرة في القيمة غلاءً ورخصًا.

بأي نقد يكون التقويم في عوض المثل؟

اتفق الفقهاء على أن التقويم في عوض المثل يكون بغالب نقد البلد. يراجع: المصادر السابقة، والمغني لابن قدامة (6/723).

ولكن ثار الخلاف فيما لو كان في البلد نقدان يتعامل بهما على قدم المساواة؟

 فذهب بعضهم إلى اعتبار النقد الأقل قيمة، وبعضهم إلى اعتبار الأكثر قيمة. هذا إذا وُجد فرق بين النقدين، أما إذا لم يوجد فرق بينهما، فإنه بالخيار. يراجع: الأشباه لابن نجيم ص (366)، والأشباه للسيوطي ص (381) والقواعد لابن السبكي (1/399)، والمغني لابن قدامة (6/723).

والذي يظهر رجحانه، أن الأمر في ذلك يعود إلى المقومين، أو القاضي مع ملاحظة الظروف والملابسات التي تحيط بالقيمة.

اختلاف المقومين:

إذا اختلف المقومان: فقال أحدهما: يقدر بكذا، وقال الآخر: يقدر بكذا.. فقد اختلف فيه الفقهاء. فذهب بعضهم إلى ترجيح ما هو الأكثر تقديرًا، وبعضهم إلى ما هو الأقل، لأنه المتيقن والزائد مشكوك فيه، فلا يلزم بالشك، وذهب رأي ثالث إلى تفصيل فيه، فقالوا: يؤخذ في الغرم بالأقل، وفي غيره مثل الغصب بالأكثر. يراجع: الأشباه والنظائر للسيوطي ص (381).

والذي يظهر رجحانه أن المقومين الخبراء إذا اختلفوا في التقويم، وهم أكثر من اثنين، فيرجع رأي الأكثرية، لأن الاثنين يكتفى بهما في أصل التقويم، وأن رأي الاثنين – في الغالب – أفضل من رأي واحد – وإذا كانوا متساويين من حيث العدد، فيضاف إليهم خبير واحد أو تشكل لجنة أخرى، لتبتَّ في الموضوع، وأما ترجيح الأكثر تقديرًا، أو الأقل، فلا وجه لترجيحه، إذ أنهما إذا تعارضا – وهما متساويان – تساقطًا – كما يقول العلماء – بالإضافة إلى أنه يتعلق به حقوق الغير، فلا بد فيه من ترجيح بخبير آخر.

ثم أنه لا يشترط الوصول في التقدير إلى القطع والتحديد، بل يكفى الظن والتقريب، وقد ذكر الزركشي أن ما توقف على التقويم، وعرض على أهل الخبرة، وحكموا بالتقويم تقريبًا، فهو المتبع في سائر الأبواب، حتى وإن تطرَّق إليه تقدير النقصان ظنًا، إلا في باب السرقة، حيث الوصول إلى النصاب قطعًا، لأن الحدود تدرأ بالشبهات. يراجع: المنثور في القواعد للزركشي (1/400)، ويراجع: المدونة (1/441)، ومغنى المحتاج (1/526)

ثبوت التقويم غير العادل:

إذا ثبت أن التقويم الذي ذكره الخبيران (أو أكثر) غير عادل، فهل يُنقَص؟ ذكر السيوطي، أن العلامة ابن الصلاح الشهرزوري، سُئل عن ملك اليتيم احتيج إلى بيعه، فقامت بينة بأن قيمته مائة وخمسون، فباعه القيم بذلك، وحكم الحاكم بصحة البيع، ثم قامت بينة أخرى بأنه قيمته حينئذ مائتان. فهل ينقض الحكم، ويحكم بفساد البيع؟.

أجاب – بعد التمهل والاستخارة – أنه ينقض الحكم لأنه إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارضة.. وقد بان خلاف ذلك. لكن السبكي نازعه في فتاويه، ومنع النقض، فقال:(لأن التقويم حدس وتخمين، ولا يتحقق فيه التعارض، إلا إذا كان في وقت واحد، وإن سلمنا المعارضة فهي معارضة للبينة المتقدمة، وليست راجحة عليها، وكيف ينقض الحكم بغير مستند راجح؟). يراجع: الأشباه والنظائر ص (383- 384)

والذي يظهر لنا رجحانه هو أن التقويم الأول إذا تعضد بحكم الحاكم، فلا ينقض إلا إذا ثبت بأدلة راجحة أن التقويم الأول فيه ظلم وغبن فاحش، ارتكب نتيجة عدم خبرة المقومين، أو القصد السيئ المبيَّت، أما إذا كان التقويم الأول لم يتعضد بالحكم، فإن الأمر يرفع إلى القضاء فيأخذ بما يحقق العدالة. يراجع: المدونة (1/441)، والشرح الكبير (2/83)

تغير عوض المثل بتغير الأحوال:

إذا قدر المقومون ثمن شيء، أو أجرته في زمن معين بشيء مقدر، ثم تغيرت الأحوال وأدت إلى زيادة ثمن المثل، أو أجرة المثل أو نقصانها – مثلاً – فما الحكم؟.

لقد فصًّل الفقهاء في هذه المسألة، وفرقوا بين تقويم السلع الحاضرة، والمنافع المستمرة، فما كان من قبيل السلع الحاضرة، فالتقويم فيها ثابت لا يتغير حيث هو مرتبط بزمن العقد، أو القبض، أو الإتلاف، حسب طبيعة الشيء المراد تقويمه.

أما تقويم المنافع المستمرة – كمن أجًّر بيتًا بأجرة المثل، ثم مضى زمن وازدادت أجرة مثله، أو نقصت – فإن بعض الفقهاء أفتوا بمراعاة هذه الزيادة، وإجراء العقد على ضوء تقويم عادل، في حين خالفهم البعض الآخر، بناءً على استصحاب الحالة السابقة، وذهب رأي ثالث، إلى وجوب إعادة التقويم في الإيجارات لصالح القُصَّر وفاقدي الأهلية، وكذلك الأمر في الوقف ونحوه. يراجع: الأشباه والنظائر للسيوطي ص (392-393) والأشباه والنظائر لابن نجيم ص (267-268)

ضمان المثل:

القاعدة العامة في باب الضمان – كما سبق – هو ضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة، ولكن المراد بضمان المثل هنا هو: أن الشيء إذا تلف عند شخص، وكانت يده يد الضمان أو أتلفه، وكان الشيء قيميًا، أو كان مثليًا لكن وجب فيه الرد بالقيمة، لأي سبب من الأسباب المذكورة سابقًا فإن ضمانه يكون بقيمة مثله في يوم التلف أو الإتلاف ما عدا الغصب – على التفصيل السابق.

فإذا تغير ثمن عملة (رأس المال المضارب) تغيرًا فاحشًا ينظر الى قيمتها على شيء ثابت / عملة ثابتة، وإذا ثبت أن من بيده المال قد استفاد من المال في تجارة فلصاحب المال الحق في نصف الربح الذي ترتب على استعمال المال.

انتهاء المضاربة:

تنتهي بالفسخ من الطرفين، وبانتهاء أجلها ولهلاك مال المضاربة، وبالتصفية النهائية.

هذا والله أعلم بالصواب

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

        كتبه الفقير إلى ربه

                                   أ.د. علي محيى الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 الدوحة في 27 ربيع الأول 1441هـ  الموافق24 November 2019     
آخر الفتاوى