بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد
فتوى: الحكم الشرعي لقراءة الدعاء بغير اللغة العربية، وبغير المأثور
فقد وردتني عدة أسئلة حول هذه المسألة من بلدان مختلفة، منها: هل يجوز قراءة الدعاء باللغة الإنجليزية؟ وهل يجوز الدعاء بغير اللغة العربية في الصلوات المكتوبة، والمسنونة؟
نقول، وبالله التوفيق؛
فإن مما لا شك فيه أن الأولى والأفضل في الدعاء هو اختيار الأدعية الواردة في القرآن الكريم سواء كانت من أدعية الأنبياء أم نحوهم، أم مما ذكره القرآن دون إسناده إلى أحد مثل ما في الآية الأخيرة من سورة البقرة.
ثم الأدعية المأثورة الثابتة في السنة النبوية الصحيحة الثابتة.
وأما الدعاء الطيب (أي من غير إثم وقطيعة رحم) بغير المأثور – في الصلاة وفي غيرها – فهو جائز عند جمهور العلماء لأن الله تعالى أمر بالدعاء مطلقًا، وهو الذي خلق اللغات، وهو الأعلم بها ومقاصدها لقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60]) ولما رواه البخاري في صحيحه الحديث 835 ومسلم في صحيحه 402 وابن حبان في صحيحه 1955 وغيرهم بسندهم عن ابن مسعود: (كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة، قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: “التحيات لله، والصلوات، والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين” – فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كلّ عبد في السماء، أو بين السماء والأرض – أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله” ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعوه).
فهذا الحديث الصحيح يدل بوضوح على أن المصلي بعد التشهد يستطيع أن يختار من الأدعية لصالح دينه ودنياه وآخرته، ما يختاره، وما هو يعجبه.
وهذا ما عليه جمع من العلماء، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/477) وأحمد وغيره من الأئمة العكس (أي عكس هذا الرأي): (الدعاء عندهم أوسع وهذا هو الصواب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه) ولم يوقت في دعاء الجنازة شيئًا، ولم يوقت لأصحابه دعاءً معينًا، كما وقت لهم الذكر، فكيف يقيد ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعاء).
وبناء على ما سبق فإن الدعاء الطيب بغير المأثور جائز على الصحيح بل الأقرب إلى الصواب.
وأما الدعاء بغير اللغة العربية للقادرين عليها في الصلوات المفروضة والمسنونة فمحل خلاف بين الفقهاء، فمنهم مَنَ حرّمه، ومنهم مَنْ كرهه، ومنهم مَنْ أجازه.
الرأي الراجح:
أن الدعاء إذا كان ضمن الأدعية الواجبة فلا يجوز للقادر على النطق بها كما ورد أن يترجمها إلى لغة أخرى، بل يتلفظ بها كما ورد، أما إذا كان ضمن غير الواجبات مثل الأدعية المأثورة في السجود، أو بعد التشهد الواجب فالأُولى والأفضل أيضًا أن ينطق ويتلفظ بها كما ورد، ويُكره له ترجمته في الصلوات المفروضة، وأما الأدعية الأخرى (غير الواجبة) في الصلوات المسنونة مثل قيام الليل فيجوز أن يدعو بها بلغته، لأنه يكون أسهل عليه وأدعى للتضرع والتأثر والرّقة في القلب والتذلل والانكسار والانقياد.
وأما غير القادر على النطق بهذه الأدعية الواجبة والمأثورة فالراجح هو جواز النطق بترجمتها والدعاء بها، لكن عليه السعي للنطق بها وفهمها، قال ابن عبد البر في التمهيد (1/141): (.. بخلاف العاجز فإنه يجوز على الأصح) وقد قال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وأحمد في رواية، والمالكية في قول: أنه يجوز ترجمة الأذكار الواجبة للعاجز غير القادر على النطق بها كما ورد.
قال الزركشي في المنثور (1/282): (ما يمتنع في الأصح للقادر دون العاجز كالأذان وتكبير الإحرام، والتشهد يصح بغير العربية إن لم يحسن العربية، وإن أحسنها فلا، لما فيه من معنى التعبد، وكذلك الأذكار المندوبة، والأدعية المأثورة في الصلاة، وكذلك السلام وخطبة الجمعة)، وقد رأينا في الحج أن بعض غير العرب يقرؤون الأدية في الحج والعمرة، وعند الصلوات دون أن يفهموها، وقد يقعون في أخطاء كبيرة دون قصد، فهؤلاء، الأفضل لهم أن يدعوا بما يفهمونه بلغتهم، فمقام الدعاء هو التضرع، وليس مجرد التلفظ.
والراجح في الخطبة أن الخطيب إذا كان يخطب في جمهور يعرف اللغة العربية فعليه أن يخطب بها، وأما إذا كان في جمهور لا يعرفون (أو أكثرهم) اللغة العربية فعلى الخطيب أن يكتفي بذكر الآيات، والأركان الأساسية للخطبتين باللغة العربية، والباقي منها كله يكون بلغة جمهوره، لأن المقصود من الخطبة الوعظ والإرشاد والنصح، وهي لا يتعبد بألفاظهما.
والخلاصة: أنه يجوز الدعاء بغير اللغة العربية للعاجز عنها في الصلوات المفروضة والمسنونة (وفي غيرهما بطريق أولى) وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة، وقول بعض المالكية، والصحيح من مذهب الشافعية، وقول للحنابلة، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
وأن الدعاء المأثور الواجب في الصلاة يُترجمه العاجز إلى لغته وجوبًا، وفي الدعاء المندوب ندبًا، وعليه السعي لتعلّم الواجب منها بقدر الإمكان.
وأما القادر على ما هو الواجب من الأركان والشروط فلا يجوز له الترجمة فإن فعل ذلك عمدًا بطلت صلاته عند جمهور العلماء.
وهناك قول آخر ذهب إليه أبو حنيفة، والمالكية في قول، والشافعية في وجه، والحنابلة في رواية – كما سبق – مؤدّاه: جواز الدعاء بغير اللغة العربية حتى للقادر غير العاجز عن النطق بها، واستدلوا بأن اللغات جميعها من عند الله تعالى، وان رسالات الله تعالى نزلت بلغات الأقوام فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم: 4]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والدعاء يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصد الداعي ومراده، وإن لم يقوّم لسانه فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوّع الحاجات).
هذا الله تعالى أعلم بالصواب،
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
* ويراجع لتوثيق الأقوال الفقهية: حاشية ابن عابدين (1/350) والشريح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/233) والمجموع للنووي (3/299-300) والمنثور في القواعد (1/282-283) وكشاف القناع (2/420-421) ومجموع الفتاوى لابن تيمية (22/488-489)
وكتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي