مصارف أموال الزكاة في أمريكا

السلام عليكم، شيخي الفاضل، أتمنى أن تكون بخير وعافية. اشتقت إليكم وإلى الجلوس معكم والتعلم منكم وأسال الله العليّ القدير أن يجمعنا معًا في الدنيا والآخرة. آمين.

طلب مني المركز الإسلامي في المدينة الجامعية التي أنا فيها في أمريكا الحصول على فتوى فيما يتعلق بأموال الزكاة التي يجمعها المركز من المتبرعين. تحديدًا، إذا مرّ عام على هذه الأموال فهل على المركز صرفها إلى جمعيات خيريّة أخرى دون ادّخارها لأيّ طلبات مساعدة قد تأتي في المستقبل من قبل المسلمين؟ أم من الممكن أن يحتفظ المركز بهذه الأموال (بحيث لا ينطبق عليه ما ينطبق على الفرد من حلول الحول الخ)؟ هذا مع العلم أن المركز الإسلامي هنا هو الوحيد في هذه المدينة وقد تأتي عدة طلبات متتالية في أسبوع واحد أو تتأخر هذه الطلبات.

أيضًا، فيما يتعلق بصرف هذه الأموال، بعض المساجد هنا تطلب من مقدم الطلب أن يقدّم نسخة من كشف الحساب البنكي وغير ذلك من المستندات للتأكد أن الراتب الذي ورد في الطلب صحيح وأنه ليس هناك تلاعب من قبل مقدم الطلب. مركزنا الإسلامي حاليًّا لا يطلب هذه المستندات وإنما يكتفي بالطلب وبعض أسماء أشخاص. فهل هناك من الناحية الشرعية مسؤولية للتأكد عبر المستندات من صحة المعلومات التى وردت في طلب الزكاة؟

في انتظار فتواكم إن شاء الله وجزاكم الله خيرًا. 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

فالمعروض يتضمن سؤالين:

السؤال الأول: تأخير صرف الزكاة من قبل الجمعية، أو المركز.

الجواب:

(1) أن الشخص المزكي الذي دفع زكاته، أو جزءًا منها إلى جمعية معروفة بالصدق والأمانة قد برأت ذمته ما دام قد سعى للحصول على مؤسسة أو جمعية مؤتمنة، أو شخص معروف بالصدق والأمانة.

(2) أما المؤسسة، أو الجمعية (أو الشخص) المستلمة مبلغ الزكاة، فهي وكيلة مؤتمنة، فيجب عليها أن تكون حريصة مثل حرص صاحب المال الموكل من حيث الاسراع بالصرف ومن حيث اختيار المستحقين للزكاة والبحث الكامل عن كونهم مستحقين استحقاقًا شرعيًا لأموال الزكاة، وإلاّ لماذا اختار المزكي هذه المؤسسة، أو الجمعية، أو هذا الشخص؟ اختارها لأنه واثق من أنها ستوصل زكاته إلى المستحقين بصورة أفضل مما لو دفعه بنفسه.

(3) ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن الأصل في دفع الزكاة: الفورية والاستعجال، وعلى هذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وبالتالي فلا يجوز تأخير دفعها بالنسبة للمالك إلا لأسباب مقبولة شرعًا، وهكذا الأمر بالنسبة للمؤسسة أو الجمعية الوكيلة عن المزكي فيجب عليها صرف الأموال الزكوية على مستحقيها فورًا إلاّ لأسباب مقبولة شرعًا مثل السعي للحصول على المستحقين، وتزكيتهم، أو تقسيم الأموال عليهم حسب فترة محدودة، مثل توزيع أموال الزكاة المجمعة على المستحقين شهريًا خوفًا من أنه لو دفعت إليهم مرة واحدة لصرفوها مرة واحدة، في حين لو وزعت على مجموعة من الأشهر لكفتهم حاجياتهم الأساسية.

ولم يرد إلينا بسند صحيح أو ثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرّ الزكاة عن مستحقيها، وكذلك الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، بل إن سياسة عمر رضي الله عنه حتى في أموال بيت المال من غير الزكاة كانت تقوم على صرفها خلال العام، وتوزيعها على المستحقين، وعدم ادخارها، فقد ذكر ابن الجوزي في مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: أن عمر كان يأمر بكسح (كنس) بيت المال مرة في السنة بتوزيعه على المستحقين على الرغم من كثرة الأموال فيه. يراجع: مناقب أمير المؤمنين عمر ص 79

 ولمّا سئل عمر عن عدم ادخاره، أجاب: بأن غنى الأمة هو غنى الدولة، ولو احتاج لأخذ منهم بطيب أنفسهم، كما أنهم فصل بين الادارة السياسية التي منحها لعمار بن ياسر الذي جعله على إمارة الكوفة، وبعث معه عبدالله بن مسعود ليكون واليًا على بيت المال، وجعله معلمًا ووزيرًا. يراجع: طبقات ابن سعد (3/255).

 وكانت سياسة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه تقوم على توزيع أموال بيت المال في كل جمعة حتى لا يبقى فيه شيئًا.

 وبناء على ذلك فإنه لا يجوز للجمعية أو المركز تأخير الزكاة، وإذا لم تستطع أن تصرفها في وجوهها الصحيحة شرعًا خلال العام فيجب عليها أن تسلم أموال الزكاة المجمعة أو الباقية إلى جمعية أخرى قادرة على صرفها على المستحقين فورًا.

 وقد أشار علماؤنا إلى أنه يجب على المزكي، أو الجهة الجامعة للزكاة بتحمل المسؤولية أمام الله تعالى لو مات شخص، أو حتى لو جاع بسبب التأخير في الدفع أو التوزيع. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أهل عرصة يموت بينهم امرئ جائع إلاّ برئت منهم ذمة الله تعالى) رواه أحمد، وقال محققه الشيخ شاكر: سنده صحيح، ورواه غيره.

 وإنني أستغرب من كلام المركز في هذا العصر الذي نجد فيه مئات الملايين من فقراء المسلمين في فلسطين، وسوريا، واليمن، والعراق، وأفريقيا، ومينمار، وبنغلاديش، بل في العالم الإسلامي، وفي ظل الأجواء والأوضاع الحالية يموت الآلاف من الأطفال وكبار السن والنساء بسبب الجوع والبرد، لذلك يجب على المركز، والمسلمين اليوم أن لا يكتفوا بدفع أموال الزكاة في وقتها، بل يجب عليهم أن يقوموا بدفع الجوع والموت عن هؤلاء وإلاّ فالمسؤولية كبيرة أمام الله تعالى.

السؤال الثاني: حول التأكد من شخصية المستحق.

الجواب:

نعم يجب على المزكي، وعلى وكيل المزكي (وهو المركز، أو الجمعية الخيرية) التأكد من كون الشخص الذي تعطى إليه الزكاة مستحقًا داخلاً في مصارف الزكاة، لأن الله تعالى حصر الزكاة فيهم بألفاظ معرفة، وبصيغة (اسم الفاعل) التي تدل على تحقق الصفة فيه فقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 60] فلا يطلق اسم الفقير أو المسكين أو الغارم ونحوهم إلاّ لمن تحققت فيهم هذه الصفات على وجه اليقين، أو غالب الظن على أقل تقدير، وهذا إنما يتحقق من خلال المعرفة الشخصية، والبحث، والتزكية من قبل الثقات.

 وأي تهاون في ذلك يُعدّ تقصيرًا، ولكن كما قلنا: على الشخص المزكي أو وكيله الوصول حسب الظاهر والأدلة والقرائن إلى الظن الغالب، وإذا ظهر بعد ذلك أن الشخص المعطى إليه الزكاة غير مستحق فلا يكون المزكي أو وكيله آثمًا ما دام اجتهد وبذل ما في وسعه، أما إذا قصّر ولم يبذل جهده فيجب عليه إعادة دفع الزكاة.

هذا والله أعلم بالصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

                                                               كتبه الفقير إلى ربه

أ.د. علي محي الدين القره داغي

آخر الفتاوى