فتوى حول سفر المرأة للحج والعمرة، أو للتعليم، أو الأعمال الإدارية

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

السؤال: فقد وصلتنا رسالة من الأخت الفاضلة ع. ن تقول فيها: إنني أعمل مديرة لإدارة الاستثمار في هيئة حكومية في الدولة، وتتطلب وظيفتي أن أسافر في مهمّات رسميّة وهي جزء من مهامّ وظيفتي سواء للاطلاع على الاستثمارات أو لحضور اجتماعات مجالس إدارة أمثل جهة عملي فيها، علمًا بأنني غير متزوجة ولا يتوفر لي الأب أو الأخ لمرافقتي في سفري.

 لذا أرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتي بفتوى في حكم اعتبار الأم من المحارم الشرعية، وذلك في حال مرافقتها لي في السفر للمهمات الرسمية….).

الجواب:

 إن سفر المرأة دون محرم من المحارم الذكور محل خلاف بين الفقهاء، فالجمهور منعوا سفرها إلاّ مع محرم، واستثنى جماعة كبيرة منهم الحج أو العمرة الفرض مع رفقة مأمونة أو مع نسوة ثقات أو امرأة ثقة، كما استثنى الجميع حالات الهجرة ـ الفرار بدينها، أو بعرضها من بلاد الكفر ـ أو نحوه.

 والسبب في هذا الخلاف يعود إلى الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ ط. السلفية (2/566)، وفي رواية ثانية عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلاّ مع ذي محرم) فتح الباري (2/566) وفي رواية أخرى عن ابن عباس بلفظ: (لا تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم) فتح الباري (4/72).

 والمراد بالمحرم هنا هو الزوج أو أبوه، أو ابنه، أو أحد المحارم الذين لا يجوز له أن يتزوجها على التأبيد.

 ونجد أن هذه الأحاديث بعضها مطلق كما في الرواية الأخيرة، وبعضها مقيد بثلاثة أيام، وبعضها بيوم وليلية، وقال الحافظ في الفتح (2/566) وفي بعض الطرق (يوم) وفي بعضها (ليلة).

 ولذلك يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور، وأما الاختلاف في الأزمان فقد اختلف فيه الفقهاء اختلافًا كبيرًا، فمنهم من ألغى كل هذه القيود لاختلافها، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أعمل قيد (ثلاثة أيام) فحمل المطلق عليها، فأجاز لها السفر إذا كانت مسافة السفر أقل من ثلاثة أيام، وحجتهم أن المنع المقيد بالثلاث متحقق بيقين وما عداه مشكوك فيه. فتح الباري (4/75 – 76).

وأما الشافعية فأجازوا سفر المرأة للحج الفرض، والعمرة المفروضة مع نسوة ثقات، وفي قول تكفي امرأة ثقة، وفي قول نقله الكرابيسي، وصححه في المهذب: تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا.

ثم جاء الإمام القفال فطرده في الأسفار كلها، واستحسنه الروياني… فتح الباري (4/76).

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/76): (ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث الباب، وهو حديث عائشة قالت: قلت يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: (لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج: حج مبرور…) وقد أورد البخاري بعد ذلك هذا الأثر: (أذن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجّها، فبعث معهنّ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، قال الحافظ: (واستدل به على جواز حج المرأة بغير محرم).

 وذكر الحافظ ابن حجر أنه بالإضافة إلى هذا الحديث: (اتفاق عمر، وعثمان، وعبدالرحمن بن عوف، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك، ومن أبى ذلك من أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصته كما تقدم، لا من جهة توقف السفر على المحرم، ولعل هذا هو النكتة في إيراد البخاري الحديثين أحدهما عقب الآخر، ولم يختلفوا أن النساء كلهن في ذلك سواء إلاّ ما نقل عن أبي الوليد الباجي أنه خصه بغير العجوز التي لا تشتهي… قال ابن دقيق العبد: الذي قاله الباجي تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، يعني مراعة الأمر الغالب، وتعقبوه بأن لكل ساقطة لاقطة والمتعقب راعي الأمر النادر، وهو الاحتياط، قال: والمتعقب على الباجي يرى جواز سفر المرأة في الأمن وحدها فقد نظر أيضًا إلى المعنى…).

 قال الحافظ في الفتح (4/76): (ومن المستظرف أن المشهور من مذهب من لم يشترط المحرم أن الحج على التراخي، ومن مذهب من يشترطه أنه حج على الفور، وكان المناسب لهذا قول هذا وبالعكس).

والخلاصة:

 أن الفقهاء قد اتفقوا على أن المرأة المسلمة لها الحق في السفر دون محرم إذا خافت على دينها ونفسها، من باب: ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، ولكن اختلفوا في سفر المرأة دون المحرم أو الزوج اختلافًا كبيرًا، وأن العلة أو الحكمة التي كان يدور عليها حكم معظمهم هو: الفتنة، والوقوع في المعاصي أو الاعتماد على النص.

 ومما جعل الخلاف سائعًا أن الأحاديث الواردة في المنع مختلفة من حيث الإطلاق، أو التقييد بالزمن، فمنها ما يشترط المحرم لسفر ثلاثة أيام، أو يوم وليلة، أو يوم أو ليلة، أو يريد، مما جعل أبا حنيفة ومن معه يقولون بالحديث الذي اشترط مسيرة ثلاثة أيام، وبالتالي يجوز للمرأة أن تسافر سفرًا إلى مكان بعيد عن محل إقامتها مسيرة ثلاثة أيام… إلى غير ذلك من الخلاف الذي ذكرناه، ومنهم من منعها من السفر مطلقًا حتى ولو كان سفر الحج إلاّ مع زوجها أو أحد محارمها، كما هو مذهب أحمد في أشهر رواياته.

والذي نرى رجحانه هو ما يأتي:

أولاً ـ أن المبدأ العام في الشريعة هو أن لا تسافر المرأة إلاّ مع زوجها، او أحد محارمها على سبيل التأبيد، وذلك سدًا للذرائع، وحفظًا لها من كل شيطان مارد من الانس والجن، ومنعًا لها من الوقوع في الفتن، وحماية لها من مشكلات السفر وعذابه وصعوباته، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها.

 وليس هذا من باب سوء الظن بالمرأة وأخلاقها أبدًا، وإنما هو حماية لها من الذئاب المتربصة ومن في قلوبهم مرض، ومن عدوان المعتدين، ومن محاولات السفهاء الذين يبحثون عن الاغتصاب حتى في ظل الحرية الجنسية الغربية حيث بلغت نسبة الاغتصاب كبيرة.

 ولذلك فإن الشباب الذين لم يتزوجوا إذا لم يهيئوا لأنفسهم أجواء الحماية من الفتنة من خلال الصحبة الطيبة والتواصل مع المراكز الإسلامية، أو لم يهيئ لهم أولياء أمورهم تلك الأجواء فإن الحرمة تشملهم إذا أوقعوا أنفسهم في دائرة الفتنة، فالفتنة ليست خاصة بالنساء، بل هي شاملة للرجال أيضًا.

ثانيًا ـ كلامنا ليس في امرأة تجد بسهولة محرمًا يسافر معها أو أن زوجها يصحبها في كل سفر مشروع، وإنما كلامنا في امرأة غير متزوجة، أو أرملة لا تجد بسهولة من يسافر معها من المحارم أو أنها صاحبة زوج لكن زوجها لا يسافر معها في أداء الحج والعمرة، أو في سفر مشروع في ضوء التفصيل الآتي:

1- سفرها للحج والعمرة الفرض:

 أما سفرها بدون المحارم للحج فقد منعه جماعة من الفقهاء منهم صاحبا أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل في الرواية المشهورة، واسحاق، وأبو ثور، والنخعي، والبصري حيث جعلوا المحرم شرطًا لوجوب الحج أو أدائه، وأجازه جماعة من الفقهاء منهم الإمام مالك إذا كانت مع جماعة من النساء (التمهيد (21/50)، والشافعي إذا كانت مع امرأة واحدة مسلمة ثقة، وبعض أصحابه أجازوا سفرها مع أمن الطريق (المجموع (7/69)، وأبو حنيفة إذا كان سفرها إلى مكة أقل من ثلاثة أيام (بدائع الصنائع (2/124) إذا كانت مع قوم عدول، والإمام أحمد في رواية الأثرم أنه لا يشترط المحرم في الحج الواجب، واختار شيخ الإسلام جواز سفرها للحج عند أمن الطريق، قال ابن مفلح في الفروع (3/236): (و عند شيخنا ـ أي ابن تيمية ـ تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إن هذا متوجه في كل سفر طاعة (الانصاف (8/79)، حتى ذهب ابن سيرين إلى أنه يجوز لها أن تخرج للحج مع رجل من المسلمين (الشرح الكبير مع المقنع، والإنصاف تحقيق الدكتور التركي (8/78).

والذي يظهر لنا أن سفرها إلى الحج دون محرم هو المختار المرجح ما دامت آمنة على نفسها وعرضها مثل أن تكون مع النسوة الثقات، أو مع أختها، أو أمها الثقة، وهو رأي الأكثرية قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (4/532): (هذه الحال ترفع تحريج الرسول صلى الله عليه وسلم عن النساء المسافرات بغير ذي محرم، كذلك قال مالك والأوزاعي والشافعي: تخرج المرأة في حجة الفريضة مع جماعة النساء في رفقة مأمونة، وان لم يكن معها محرم، وجمهور العلماء على جواز ذلك، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه، وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن البصري، وقال الحسن البصري: المسلم مَحْرَمٌ ـ أي الصالح التقي كالمحرم الحقيقي في كونه مأمونًا على المرأة، ولعل بعض من ليس بمحرم أوثق من المحرم).

 وجاء في الاختيارات للبعلي ص171: (وتحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، قال أبو العباس: وهذا متوجه في سفر كل طاعة).

 ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في الحج، والاجماع الذي تم باتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأمهات المؤمنين دون تنكير ـ كما سبق ـ، وحديث عدي الصحيح ونصه: (يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا زوج معها) قال الحافظ في الفتح (4/76): (وتعقب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه، وأجيب بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيحمل على الجواز).

 ومن الجدير بالإشارة إليه ان الأمن الذي ذكره الفقهاء يتحقق بأمن الطريق، وبوجودها مع نسوة ثقات، أو رفقة مأمونة، وعند الشافعي بامرأة ثقة مأمونة، كما هو الحال اليوم أن تكون موجودة ضمن حملة حج فيها نساء ثقات.

2- سفرها سفرًا مشروعًا غير الحج والعمرة:

 وأما سفرها في غير الحج والعمرة فإن كان سفرًا مشروعًا مثل السفر للتعليم، او التجارة، أو الاشراف على الأعمال ـ كما في الحالة المذكورة في السؤال ـ فهو أيضًا محل خلاف، وذهب بعض الفقهاء ـ كما سبق ـ إلى تعميم ذلك.

والذي نرى رجحانه هو مع مراعاة الأصل السابق أن المرأة المسلمة لها الحق في السفر المشروع بالضوابط الآتية:

أ ـ أن يكون هناك أمن للمرأة نفسها: لعرضها، ونفسها، ومالها، أمن في الطريق، وأمن في محل اقامتها، وعدم الخوف في الوقوع في فتنة في دينها أو عرضها، فهذا هو الشرط الأساسي الجوهري الذي تدور عليه معظم الأحاديث، ولا سيما الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا زوج معها).

 وهكذا معظم الآراء تدور حول أمن الطريق، يقول الباجي في شرح الموطأ (3/82-83): (ولعل هذا الذي ذكره بعض أصحابنا إنما هو في الانفراد، والعدد اليسير، فأما في القوافل العظيمة، والطرق المشتركة العامرة المأمونة فإنها عندي مثل البلاد التي يكون فيها الأسواق والتجار فإن الأمن يحصل لها دون ذي محرم، ولا امرأة، وقد روى هذا عن الأوزاعي، قال الخطاب: وذكره الزناتي في شرح الرسالة على أنه المذهب فيقيد به كلام غيره…).

 وفي نظري أن الطائرات الناقلة نقلاً عامًا مباشرًا اليوم مثل السوق والقرية الصغيرة فلا تحتاج المرأة في السفر من خلالها إلى محرم بشرط الأمن عن الفتنة والأفضل أن تكون الطائرة تصل إلى بلد المقصد مباشرة دون الوقوف (ترانزيت)، أو ان يكون هناك وقوف (ترانزيت) ولكن المطار يكون آمنًا، بل المطار مثل السوق.

ب ـ أن لا يتطلب السفر مبيتًا في الطريق كالفنادق حيث لا يجوز لها السفر لاحتمال تعرضها لمشاكل الفتنة إلاّ إذا هيئت الأجواء المناسبة، ومعها نسوة ثقات، أو امرأة واحدة ثقة، ولم تكن هناك فتنة.

ج ـ أن تجد مكانًا آمنًا في بلد الاقامة.

د ـ الإذن من زوجها إن كانت متزوجة، أو من ولي أمرها إن كانت بكرًا شابة.

هـ ـ أن تكون معها نسوة ثقات، أو امرأة ثقة، ولذلك إذا كانت معها أمها الثقة فلا مانع من سفرها بعد تحقق الشروط السابقة.

 وقد أجاز سفر المرأة لأي سفر طاعة عند أمن الطريق جمع من الفقهاء القدامى منهم الشافعية في وجه، والمالكية في قول.

 وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية قاس كل سفر طاعة على السفر للحج في جواز سفر المرأة آمنة مع عدم المحرم وقال: (إن هذا متوجه في كل سفر طاعة) الفروع (3/236) ويراجع: بحث الشيخ صالح الأسمري في موقع صيد الفوائد، وذكر العيني في عمدة القارئ (7/128) أنه روى عن عائشة أنها كانت تسافر بغير محرم، فأخذ به جماعة وجوزوا سفرها بغير محرم).

 وذكرنا كذلك أن الإمام القفال والروياني طردا قول الشافعي في جميع الأسفار المشروعة.

 وكذلك أجاز سفر المرأة بدون محرم للتعليم والمؤتمرات المفيدة لها، أو للمجتمع، المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وجمع من الفقهاء المعاصرين بضوابط، منهم فضيلة الشيخ القرضاوي حيث قال: (كما يجب أن نضيف: أن السفر في عصرنا لم يعد كالسفر في الأزمنة الماضية محفوفًا بالمخاطر، لما فيه من اجتياز الفلوات، والتعرض للصوص وقطاع الطرق، وغيرهم، بل أصبح السفر بواسطة أدوات نقل تجمع العدد الكثير من الناس في العادة كالبواخر والطائرات والسيارات الكبيرة أو الصغيرة التي تخرج في قوافل، وهذا يجعل الثقة موفورة، ويطرد من الأنفس الخوف على المرأة لأنها لن تكون وحدها في موطن من المواطن ولهذا لا حرج أن تسافر مع توافر هذا الجوّ الذي يوحي بكل اطمئنان وأمان) يراجع موقع إسلام أون لاين نت، وهو رأي الاخت الفاضلة الدكتورة سعاد صالح وكثير من المعاصرين.

 وبالمقابل فإن جمعًا كثيرًا وبخاصة من علماء السعودية يمنعون سفرها مطلقًا إلاّ مع زوجها، أو محرم.

 ونحن هنا نضيف شيئًا أصلّه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم من التفرقة بين ما حرمه الإسلام لذاته، وبين ما حرمه لسدّ الذريعة، فالأول لا يباح إلاّ للضرورة، وأما الثاني فيباح للحاجة الماسة، ومما يظهر بوضوح أن حظر سفر المرأة بدون محرم حظر لسدّ الذرائع، لذلك إذا وضعت الضوابط لعدم تحقيقها تغير الحكم الشرعي إلى الاباحة.

توضيح أحاديث المنع:

 ومن المعلوم أن هناك بعض الأحاديث تدل على منع سفر المرأة مطلقًا، وبعضها تدل على منعها من سفر يستغرق ثلاثة أيام، أو يومًا وليلة، أو يومًا فقط، أو ليلة فقط فكيف يجاب عنها.

أ ـ فقط أجاب المجيزون وهم الأكثرية عن هذه الأحاديث بعدة أجوبة، فالحنفية اعتمدوا على ثلاثة أيام باعتبارها محل اليقين في المنع، وبالتالي أجازوا سفرها لمسافة أقل منها. يراجع: حاشية ابن عابدين (2/464 – 465).

وهنا نستفيد من هذا المذهب حيث يدخل في إطاره كل الأسفار التي تتم بالطائرة حيث إنه لا توجد مسافة أطول من مسافة ثلاثة أيام بالطائرات وكذلك المسافات التي تقطع بالسيارات العامة إذا كانت في حدود ثلاثة أيام.

 وقد وافق الحنفية جماعة من أصحاب الحديث والرأي، وحكى أيضًا عن الحسن البصري والنخعي، والشعبي، والحسن بن حيي، وقال سفيان: (إن كانت من مكة على أقل من ثلاث ليال فلها أن تحج مع غير ذي محرم، أو زوج) الاعلام لابن الملقن (6/80-81).

 وحتى لو اعتمدنا على الأحاديث التي حددت سفرها بمسافة يوم وليلة، فإنها تحل مساحة كبيرة، فمعظم أسفار المرأة لا تزيد مسافتها بالطائرة عن 24 ساعة، أو 12 ساعة، ولا سيما إذا سرنا على ظاهر الأحاديث.

ب ـ الجواب الثاني هو ما ذكره الإمام القرطبي في المفهم (3/450): (المنع في هذه الأحاديث إنما خرج لما يؤدي إليه من الخلوة، وانكشاف عوراتهن غالبًا، فإذا أمن ذلك بحيث يكون في الرفقة نساء تنحاش إليهن، جاز كما قال الشافعي ومالك) وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (4/533): (ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيها ـ بغير محرم، وكذلك كل واجب عليها أن تخرج فيه)..

ج ـ والذي يظهر لي رجحانه أن هذه الروايات المختلفة في الأحاديث يمكن حملها على اختلاف حالات السائلين، واختلاف المواطن، وحالات المرأة كما أنها معللة لحمايتها من الفتنة.

 وأيًا ما كان فإن هذه الأحاديث كلها لم تبق على عمومها وإنما خصصت بالإجماع في بعض الحالات ـ كما سبق ـ وبالتالي فهي معرضة للتخصيص بالقياس، بالإضافة إلى أن للسياق لدى محققي الأصوليين قدرة على التخصيص والتوجيه، ومن هنا فإن القائلين بالجواز المقيد، أو المطلق لم يخالفوا هذه الأحاديث وإنما أولوها، أو خصصوها، والتأويل والتخصيص كلاهما معتبران في الأصول وشائعان في النقول، يقول الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار (27/274): (والذي جمع معاني آثار الحديث على اختلاف ألفاظه: أن تكون المرأة تمنع من كل سفر يختشى عليها الفتنة إلاّ مع ذي محرم أو زوج…).

 ومن هنا فالمرأة المسلمة المحافظة لها الحق في السفر لكل عمل مشروع بشرط عدم تعرضها للفتنة في عرضها، ودينها، وبشرط أمن الطريق، ووجود نسوة ثقات، أو امرأة ثقة، ولكن عليها ان كانت متزوجة أن تأخذ الاذن من زوجها، وإلاّ فمن ولي أمرها أبيها، أو أمها إن كانت بكرًا شابة.

وفي الختام فقد فصلنّا القول في هذه الفتوى لخطورتها واهميتها ولذلك أختمها بما يأتي:

1- أوصي بناتنا وأخواتنا ـ بل أبناءنا وإخواننا ـ بتقوى الله تعالى، واستشعار رقابته، في السفر والحضر، وعدم توريط النفس في أماكن الفتنة والاثارة، فإن النفس أمارة بالسوء، والإنسان خلق ضعيفًا، فإذا وقع في أماكن الفتنة فقد يضعف ذكرًا كان أم أنثى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا….) سورة التحريم: الآية 6.

2- إن مسألة الاحتياط في سفر المرأة لا تعود في الإسلام إلى اتهام المرأة أبدًا، وإنما تعود إلى حمايتها وعدم تعريضها للفتنة، وبالتالي فيجب على الزوج، أو ولي الأمر أن يتحمل مسؤوليته في تحمل أعباء الحياة بحيث لا يكلفها فوق طاقتها وطبيعتها، بل إن هذا الاحتياط يشمل الشباب المسافرين إلى بلاد فيها الفتنة بالنساء أو بالمخدرات وبقية المحرمات.

3- إن على المرأة المسلمة أن تتقبل بصدر رحب الأوامر الالهية والتوجيهات الدينية وان ما يظهر منها أنها قيود هي في حقيقتها تعود بالمصلحة والمنفعة إليها في دينها ودنياها، فالإسلام رحمة بالجميع، وخير للجميع.

4- أن على المرأة المسلمة أن تحتاط في أسفارها، فإذا لم تكن للحج، أو العمرة، أو للتعليم، أو لأمر مشروع مهم فلا تقدم على السفر إلاّ في ظل أجواء آمنة وسفر آمن وإقامة آمنة لا تخاف على نفسها وعرضها بحيث تكون في رفقة مأمونة أو امرأة ثقة، حيث لا يجوز شرعًا أن يعرض الإنسان نفسه للفتنة، وبالتالي فلا ينبغي لها السفر لغير الحاجة إلاّ مع زوجها أو أحد المحارم، أما للحاجة فبالضوابط السابقة.

هذا والله أعلم

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

آخر الفتاوى