الفتوى في الأمور العامة ينبغي أن تكون فتوى جماعية، ولا يوجد دليل شرعي معتبر على حرمة نظام الأقاليم، بل هو أقرب إلى نظام الولايات الإسلامية في ظل وحدة العالم الإسلامي.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..

 صدرت بعض الفتاوى بحرمة نظام الأقاليم، وهو ما يسمى بالفدرالية، ومع احترامنا الشديد لصاحب هذه الفتوى فإننا نرى ما يأتي:

أولاً: من الناحية المنهجية نرى أن مثل هذه القضايا العامة التي تتعلق بالسياسة الشرعية، ولها آثار كبيرة يجب الرجوع فيها إلى الفتاوى الجماعية من خلال المجامع الفقهية، أو من خلال مؤتمر يضم أكبر عدد من العلماء والسياسيين والخبراء من أهل الذكر، حتى ينظروا في المسألة من جميع جوانبها، وحتى تكون بعيدة عن الأهواء والحساسيات للوصول إلى رأي متوازن.

ثانيًا: أن نظام الولايات والأقاليم كان سائدا منذ عصر الخلافة الراشدة، حيث كانت أقاليم أو ولايات الخلافة تقسم على مكة المكرمة، والمدينة المنورة، ومصر، والشام، والعراق، وفارس، وغيرها. وقد ذكر الأستاذ الدكتور أكرم العمري وأ.د. علي الصلابي أن نظام الولايات قد بدا في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبلغت الولايات في عصر الصديق سبع ولايات، وهي الحجاز، والبحرين، ونجد، واليمن، وحضرموت، والعراق، والشام، وأما المدينة فهي عاصمة الدولة يتولى إدارتها الخليفة مباشرة. وكانت سياسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه كان يختار واليا من القوم إذا وجده كفئا، حيث ولى جرير بن عبد الله البجلي على قومه بجبلة، وولى سلمان الفارسي على المدائن، ونافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف[1] يقول أ.د. أكرم العمري:” أن معظم الولاة على اليمن- منذ عهد الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى عهد عمر رضي الله عنه كانوا من أهل اليمن”[2]، وكان واجب الولاة هو ما يأتي:

  1. إقامة أمور الدين وتحقيق العدل للجميع.
  2. حماية مصالح البلاد والعباد، وتحقيق الأمن والأمان، وتوفير احتياجاتهم.
  3. الولاء لسلطة الخلافة.
  4. وأما الأموال من الصدقات والفيء، والعشور فالأولوية لأهل الإقليم ثم ما فاض يكون للمركز حسب الاتفاق أو الطلب استنادا إلى أمر النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل حينما أرسله إلى اليمن” خذها – أي الصدقات – من أغنيائهم وردها على فقرائهم” [3].
  5. أن وثائق الولاية التي كانت تصدر من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تدل بوضوح على أن للولاة صلاحيات واسعة في حدود إقليمهم، وان دور الخليفة هو التوجيه، والمراقبة، والمتابعة، لتحقيق العدل بين الناس والدعوة والتعليم[4].

ثالثًا: أن نظام الحكم في الإسلام لم يكن مركزيا بحيث يأخذ الخليفة ويستبد بكل مقاليد الحكم، بل كان للولاة سلطات واسعة في تعيين كل العمال والموظفين في أقاليمهم ومحاسبتهم بالتشاور مع أهل الخبرة، وكانوا مسؤولين عن الشؤون المالية والاقتصادية، ولكن كانوا يخضعون لمراقبة الخليفة في تحقيق العدل والأمن والخير لأهل الولاية، ولا يلتقون به إلاّ مرة واحدة عند الحج.

وقصدنا من هذا العرض الموجز أن الوحدة الإسلامية لا تعني الإدارة المركزية، ولا إلغاء الأقوام والشعوب، وإنما الوحدة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي وحدة العقيدة، والمشاعر، والشعائر، والولاء والنصرة التي تؤدي بالضرورة بإذن الله تعالى- إلى وحدة سياسية طوعية في القريب العاجل.

رابعًا: أن وحدة العالم الإسلامي هي أمنية جميع المسلمين، بل هي فريضة يجب أن نسعى إليها بكل إمكانياتنا، ولكنها غير موجودة في الجانب السياسي، فعدد الدول الإسلامية يفوق خمسين دولة.

ولكن هذه الوحدة من حيث العقيدة والمشاعر والشعائر والانتماء موجودة – والحمد لله – وعلينا السعي الدائم لتحقيقها، ولا أحد يقول من فقهاء القانون الدستوري: أن نظام الأقاليم أو الفدرالية هو تقسيم وتمزيق للدولة، فأقوى الدول اليوم في العالم مثل أمريكا تقوم على النظام الفدرالي، كما أن هذا النظام مطبق في كثير من الدول المتقدمة في العالم.

خامسًا: إن القول بتحريم نظام الأقاليم والولايات، (أو ما يسمى بالفدرالية) في ظل الدولة الاتحادية الواحدة، ليس له سندٌ مقبولٌ من الشرع، وإنما سنده الخوف من الواقع، وتطلعات الشعوب نحو الاستقلال، وذلك لأن جميع الآيات والأحاديث التي سردها صاحب الفتوى هي في دائرة تمزق الأمة الواحدة وخروج فئةٍ باغيةٍ على الخليفة العادل الذي يقيم العدل، ففي هذه الحالة فنحن جميعًا مع تنزيل هذه الأدلة عليها، في حين أن موضوع “نظام الأقاليم” في ظل الدولة وعدم الخروج عليها ظلمًا وعدوانًا لا يدخل في تمزيق الأمة والمس بوحدتها، فالفدرالية هي نظام إداري اتحادي يحافظ على الوحدة إن أُحسن استعماله والنظام السياسي في الاسلام واسع لكل إدارة ناجحة ما دامت لا تتعارض مع نص صريح من الكتاب والسنة.

والخلاصة أن الإشكالية في الفتوى فيما يأتي:

  1. استعمال لفظ التحريم في مسألة اجتهادية، مع أن السلف الصالح والمحققين من العلماء لا يستعملون هذا اللفظ إلا في محرمٍ مقطوعٍ بحرمته.
  2. عدم تحرير محل النزاع، وذلك لأن النزاع ليس في حرمة تمزيق الأمة، وإنما الحديث في نظام (الإقليم) أو (الفدرالية) التي هي أشبه ما تكون بنظام الولايات في ظل الخلافة الراشدة.
  3. إن مثل هذه الفتاوى المتعلقة بشعب أو طائفة كبيرة لا ينبغي أن ينفرد بها عالم واحد – مهما علت مرتبته – بل يجب عرضها على المجامع الفقهية، أو مؤتمر كبير – كما سبق.
  4. إن فقه تنزيل النصوص، وتحقيق المناط يدلاّن بوضوح على أن تلك الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة اللتين استشهد بها صاحب الفتوى، لا تنزلان على الواقع العراقي، الذي تعاني طائفة معينة من الإقصاء والتهجير والتشريد والاعتداءات حتى على الأعراض، ثم هي تطالب بحقها في إدارة نفسها في ظل الدولة العراقية الموحدة، بل إنها معرضة لتغيير هوية بلادها، فلننظر إلى حالة بغداد قبل الاحتلال وبعده، بل فلننظر إلى حالة سامراء قبل الاحتلال وبعده، فهل تكون المطالبة بأن تدير نفسها بنفسها في ظل العراق الاتحادي الموحد حتى تحمي نفسها، تكون محرمة؟

 إننا نطالب بالوقوف مع شعبنا في الوسط، ومع مطالبهم العادلة في ظل العراق الموحَّد.

 ومن جانب آخر فإن الفدرالية ليست شيئا لازما ولا مستمرا، بل يمكن عند عودة الأمور إلى نصابها أن تعود جميع مكونات العراق إلى نظام آخر.

هذا والله أعلم بالصواب


([1])عصر الخلافة الراشدة للدكتور أكرم العمري، ص:111-112، ويراجع بتفصيل ذلك في تاريخ الخلفاء الراشدين، د.علي الصلابي، ط.دار ابن كثير/بيروت(2/406)

([2]) عصر الخلافة الراشدة، ص:112

([3])الحديث رواه البخاري ومسلم

([4]) تراجع هذه الوثائق في: الأستاذ محمد حيد الله: الوثائق السياسية للعهد النوبي والخلافة الراشدة، وبخاصة ص:6406، ود.اكرم العمري: المرجع السابق، ص: 6123، ومصادره المعتمدة

آخر الفتاوى