وردت من الأفراد والجمعيات مجموعة من الأسئلة حول (مدى جواز شرعية تحصيل صدقة الفطر عبر الرسائل النصية، وشرعية تأخير تحصيلها إلى ما بعد عيد الفطر وشرعية الدفع تحت الحساب).
وللإجابة عن ذلك نقول: بعد الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
فهذا الموضوع يحتاج إلى تأصيل أمرين مهمين هما:
الأمر الأول: مدى شرعية تحصيل صدقة الفطر (أو الزكاة) عبر الرسائل الالكترونية (SMS):
فقد ناقشنا هذه المسألة – من حيث المبدأ – في مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السادسة في الفترة 17-23 شعبان 1410هـ، وقدمت فيها بحثًا مفصلاً أثبتُّ فيه أن هذه الأدوات الالكترونية من البرق، والتلكس، والفاكس، والانترنيت، والرسائل الالكترونية عبر (SMS) إن هي إلا وسائل حديثة للتعبير عن إرادة الإنسان، وقصْده ونيته، وأنها ترجع في حقيقتها إلى القول، أو الكتابة، وبما أن التعبير عن الإرادة والقصْد والنية والرضا جائز وصحيح بالكتابة العادية فكذلك يجوز أن يكون بالكتابة الالكترونية، بل الأخيرة أدق وأضبط، وأبعد عن الشبهة، لذلك صدر قرار رقم 52(3/6) من مجمع الفقه الإسلامي الدولي باعتماد صحة إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة.
وقد صرح فقهاؤنا الكرام قديمًا وحديثًا بأن الأصل المعتبر في العبادات بالذات هو النيات، والقصد الداخلي والارادة الباطنة، والرضا القلبي تطبيقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات..) رواه البخاري في صحيحه الحديث رقم 1، ومسلم الحديث رقم 1907، وأخذ من هذا الحديث ومن غيره القاعدة الكلية القاضية بأن (الأمور بمقاصدها).
ثم يأتي دور التعبير عن هذه النية أو الإرادة أو القصد بأي شيء يكون دليلاً عليه، وقد قال الشاعر أخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ***** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وهذا الدليل قد يكون باللفظ، وقد يكون بالكتابة، ولذلك قال علماؤنا: (الكتاب كالخطاب) والمراد بالخطاب هنا: الكلام الذي يخاطب به، يقول الكاساني في بدائع الصنائع (4/1813): (إن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبلغ بالخطاب مرة، وبالكتاب مرة أخرى.. وكان التبليغ بالكتاب.. كالتبليغ بالخطاب، فدل على أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب)، وقد ذكرت في رسالتي الدكتوراه: مبدأ الرضا في العقود (2/949) دور الكتابة وقلت: (بل إن القرآن الكريم أعطى الكتابة منزلة أسمى، حيث أمر الله تعالى في آية الدين بالكتابة ثم بالشهادة…).
لذلك لا إشكال شرعًا في أن يعبر المتصدق (في زكاة الفطر، أو زكاة المال) عن نيته وإرادته من خلال هذه الرسائل الالكترونية، وينفذها فعلاً من خلال الآلية المعروفة من حسم (خصم) المبلغ المطلوب، وقيده في حساب الصندوق أو بيت الزكاة – مثلاً – وبذلك فقد أدى ما عليه شرعًا، ويبقى دور صندوق الزكاة أو بيت الزكاة في تنفيذ هذا المشروع في وقته، وقَبْلَ صلاة عيد الفطر المبارك بالنسبة لصدقة الفطر، وتوصيل أموال الزكاة إلى مصارفه الشرعية الثمانية.
وذلك أن المتصدق إنما أقبل على ذلك بناءً على التزام الصندوق (أو الجمعية) بأنه يَقبل الزكوات عبر الوسائل الالكترونية أو من خلال الأنترنت أو التلفون أو آية وسيلة جديدة، فحينما يستجيب المتصدق لمثل هذا الإعلان وينفذه حسب ما طلبه الصندوق (أو الجمعية) فقد وفًى وكفى، وعلى الصندوق (أو الجمعية) شرعًا أن يلتزم بكل ما نشره والتزم به فقال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) }المائدة1{
الأمر الثاني: مدى شرعية تأخير تحصيل صدقة الفطر:
والسؤال هنا هو: ما الحكم الشرعي في حالة تأخير تحصيل صدقة الفطر عن يوم العيد؟ وما هو البديل الشرعي؟
وللإجابة عن ذلك نقول: لا شك أن المطلوب من المسلم أن يبادر إلى دفع صدقة الفطر، فإن كان يقوم بها هو فيجب عليه أن تصل صدقته إلى المحتاجين قبل صلاة عيد الفطر حيث قال الحبيب المصطفى صلى الله: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) رواه الدارقطني (2/153) وقد ضعفه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ورواه ابن عدي في الضعفاء (8/319)، وضعفه ابن حزم في المحلى (6/21) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4/175) وأشار إلى ضعفه، وقال النووي في المجموع (6/126): الحديث ضعيف.
أما إذا كان المتصدق يدفع صدقة فطره إلى المؤسسات الخيرية فعليه أن يدفعها في وقت مناسب حتى تتمكن المؤسسة من إيصالها إلى المحتاجين المستحقين في وقتها، ولذلك ذهب جمْع من الفقهاء منهم المالكية والحنابلة إلى أنه يجوز تقديمها عن وقتها بيومين، والحنفية إلى جواز دفعها في رمضان كله، ومنهم من أجاز دفعها من بعد المنتصف وهو الراجح في نظري
ثم في هذه المسألة حالتان مهمتان:
الحالة الأولى: أن المتصدق يدفع زكاة فطره قبل صلاة عيد الفطر عبر الرسائل الإلكترونية، ولكن الصندوق أو بيت الزكاة لا يتمكن من تحصيل هذه الأموال قبل العيد؟
والجواب عن هذه الحالة من الناحية الشرعية كالآتي:
1- إذا دفع المتصدقون زكواتهم عبر الرسائل الالكترونية أو الانترنيت، أو نحوهما لحساب صندوق الزكاة أو بيت الزكاة وعلم صندوق أو بيت الزكاة بها، ولكنه لم يتمكن من تحصيلها من البنوك أو غيرها لأي سبب كان، ففي هذه الحالة فإن هذه الأموال قد أصبحت شرعًا في ذمة الصندوق أو بيت الزكاة، وبالتالي يقع على الصندوق أو بيت الزكاة الإسراع بدفعها من خلال أمواله الخاصة إن وجدت، كما أن الوكالة قد تحققت (أي توكيل المتصدق للصندوق أو بيت الزكاة) وحينئذ يجوز بلا شك أن يدفع من أمواله الأخرى الموجودة، وذلك لأن ذمة الصندوق أو بيت الزكاة في النتيجة واحدة، كما كان الأمر في بيت المال، حيث كان هناك ما يسمى بالمناقلة، حيث نص الفقهاء على أن لبيت المال أربعة أقسام (أربعة بيوت): بيت الزكاة، وبيت الأخماس، وبيت الضوائع، وبيت مال الفيء، ثم قالوا: (للإمام، أو من ينوب عنه أن يستقرض من أحد البيوت الأربعة ليصرفه في مصارف البيوت الأخرى، ويجب رده إلى البيت المستقرض منه، ما لم يكن صرفه إليه يجوز صرفه من هذا البيت الآخر). يراجع الخراج لأبي يوسف ص80، وحاشية ابن عابدين (2/57 و3/282).
وقصدي من هذا النص أن الأخ المدير (وهو المفوض من الدولة) يصدر قرارًا بقرض المبلغ المطلوب من أموال مصارف الزكاة الأخرى أو من أموال الإدارة لتُصرف على أساس صدقة
الفطر على الفقراء بمقدار المبلغ الذي وصل إلى حساب الصندوق أو الجمعية، أو علم به من خلال الرسائل الالكترونية، ثم يقوم الصندوق أو بيت الزكاة برد ما أخذه من ذلك المصرف إلى المصرف المقترض منه إذا لم يكن ذلك من مصارفه.
وقد صدر قرار رقم (27/2/4) بأن لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلاً…. في صرف الزكاة.
ولا يختلف الحكم الشرعي في حالة مالم يعلم الصندوق به مادام تصرف المتصدق جاء وفق الاعلان المنشور المعتمد من قبله لأنه التزم به ولذلك يجب عليه ان يحتاط بالزيادة
2- في الحالة السابقة إذا احتاط الصندوق أو بيت الزكاة، ودفع أكثر فلا مانع منه بشرط أن يكون الأخذ من مصرف يجوز صرفه منه لهؤلاء الفقراء، مثل الصرف من حصة زكاة المال.
وبعبارة واضحة يجوز للصندوق أو بيت الزكاة بقرار من مدير الصندوق (المفوض) أن يأخذ مبلغًا مثل مائة ألف ريـال -مثلاً- من مصرف زكاة المال بنية صرفها صدقة فطر عن كل الأموال التي خصها المتصدقون لزكاة الفطر عن طريق الصندوق أو بيت الزكاة، ثم يَصرفها للفقراء المحتاجين، فإن هذا العمل جائز بل فيه الاحتياط المقبول شرعًا، ثم إن تبين في الأخير بأن المال المرصود للصندوق أو بيت الزكاة من قبل المتصدقين عبر الرسائل الالكترونية كان أقل من المبلغ المصروف بعشرين ألفًا مثلاً فإن ذلك جائز شرعًا، وأن 80,000 ألف ريال تكون لصدقة الفطر، وأن 20,000 ألف ريال الباقية من حصة زكاة المال، وبما أن الذين صرف لهم هم فقراء وهم مصرف لصدقة الفطر، ومصرف لزكاة المال فلا حاجة إلى التعويض.
والإشكالية هنا تقع لو صرفت على غير الفقراء والمحتاجين (غير مستحقي الزكاة) وهذه غير واردة – بفضل الله تعالى أولاً، ثم بجهود الإدارة الجادة وهيئتها الشرعية الملازمة
وإن تبين أنه مساو فهذا شيء طيب، أما لو كان المصروف أقل من المحصل الأخير فيجب على الصندوق أو بيت الزكاة التدارك بأن يصرف فعلاً ما تبقى للفقراء، لأن صدقة الفطر حتى لو فات وقتها لن تسقط، وإنما يتحول إلى القضاء. كما نص على ذلك فقهاؤنا الكرام وتدل عليه الأدلة الشرعية منها أدلة وجوب صدقة الفطر من السنة والإجماع، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح “فدين الله أحق أن يقضى” وكان ذلك جوابًا لسؤال حول من مات وعليه صيام، والحديث رواه البخاري في صحيحه، الحديث رقم 1953 ومسلم الحديث 1148،
وأن الصندوق أو بيت الزكاة إذا لم يقصر فلا يكون آثمًا – إن شاء الله – لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان..” رواه أحمد في المسند (2/464) وصححه ابن حزم في المحلى (5/193)، ورواه ابن حبان في صحيحه الحديث 7219 بلفظ “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان..” وقد قال تعالى (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) }البقرة 286{.
3- وهل يجوز أن يقدر صندوق أو بيت الزكاة بوقت كاف أن صدقات الفطر المحصلة من الرسائل الالكترونية، وغيرها حسب الاحصائيات والدراسات مليون ريال مثلاً، ثم يدفع هذا المبلغ بهذه النية؟
للإجابة عن ذلك نقول:
إن صندوق أو بيت الزكاة جهة معترف بها رسميًا وبالتالي فله شخصية معنوية مستقلة، وذمة مالية مستقلة، وأنه أنشئت لتقوم بجباية الزكاة بنوعيها وصرفها في مصارفها…
فهذه الذمة المالية المستقلة اعترف بها فقهاؤنا القدامى لبيت المال، اعترافًا واضحًا في كتبهم لا يسع المجال لسرد نصوصهم هنا، وقد اعترفت المجامع الفقهية أيضًا بالشخصية الاعتبارية لمثل هذه المؤسسات الخيرية والمالية، بل الأدلة الشرعية على أن الامام أو من ينوب عنه يجوز له أن يقترض على بيت المال، وأن يتصرف فيه بما يحقق المصلحة، فقد ثبت في الحديث الصحيح “أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار دروعًا للجهاد من صفوان بن أمية” رواه أبود داود (3/328) وسكت عنه مما يدل على تحسينه إياه، ورواه الحاكم في المستدرك (3/48) وصححه، ووافقه الذهبي، وقد أكد الشراح على أن هذه الاستعارة كانت على ذمة بيت المال، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه (ث/1224) بسنده عن أبي رافع قال “استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بعيرًا وردّ مثله من إبل الصدقة” وهذا الحديث نص في جواز الاقتراض والإقراض على بيت الزكاة أو بيت المال، وإذا كان الأمر كذلك فإن صندوق الزكاة له الحق أن يقترض من أموال زكاة المال لصالح الدفع لصدقة الفطر.
ثم بعد ذلك تتم التصفية حسبما ذكرناه في الفقرة (2) حيث نصّ الفقهاء على أن للإمام أو من ينوب عنه أن يستقرض من بيوت المال للبيت الأخر، ثم يرد إلى البيت المستقرض منه إلا أن يكون المصروف قد صرف من الصدقات على الفقراء، وحينئذ لا حاجة إلى الرد (ابن عابدين (2/57، 3/282).
وبناءً على ذلك فإن لصندوق الزكاة بأمر من المدير المفوض أن يقترض من المبلغ الذي يريد صرفه لأداء الالتزامات الناشئة من توكيل المتصدقين في صدقة الفطر، فيصرف قبل العيد، ثم تتم التصفية بعد العيد وأن ما زاد فليس عليه الرد مادام صرف على الفقراء، ولكن عليه الأحوط بالزائد حتى لا يقع نقص من المطلوب من أموال صدقة الفطر.
فصندوق أو بيت الزكاة وكيل شرعي عن المتصدقين بقانون، وله وجود رسمي من الدولة، فعليه أن يعمل بمقتضى المصلحة العامة في حدود وكالته.
وكذلك بما أن له شخصية اعتبارية وذمة مالية مستقلة يجوز لها تعجيل الزكاة بيوم أو يومين أو نصف شهر قبل عيد الفطر حتى تصل الصدقات إلى اصحابها على الوجه المطلوب الأكمل.
ملاحظات مهمة:
على صندوق أو بيت الزكاة أن يحدد زمن التحصيل في الإعلان الخاص بهذه الخدمة بما لا يتجاوز بداية صلاة عيد الفطر ابدًا وذلك بأن ينص الاعلان عن هذه الخدمة على ما يأتي:
“يلتزم صندوق أو بيت الزكاة بنقل صدقة الفطر عبر رسائل (SMS) أو نحوها من 15 رمضان إلى الساعة 4 صباح عيد الفطر أو الساعة 12 ليلة العيد – مثلاً.
ثم يختار احدى العبارات الثلاث الآتية:
ا- إن أي مبلغ يصل الصندوق أو بيت الزكاة بعد هذا الزمن لا يعد من صدقة الفطر ويصرف في وجوه الخير.
ب- إن قبول الرسائل الخاصة بصدقة الفطر يتوقف بعد الزمن المحدد بالساعة 12 ليلة العيد -مثلاً.
ج- إن أي مبلغ يصل الصندوق أو بيت الزكاة بعد الساعة الرابعة صباح يوم العيد (مثلاً) لا يلتزم الصندوق أو بيت الزكاة بصرفه قبل صلاة العيد وإنما يصرفه قضاءً، ويتحمل المرسل آثار تأخيره شرعًا.
هذا والله أعلم بالصواب
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.