فقه الميزان في الكفّارات

ونظرًا لأهمية الموضوع نقوم هنا بإعادة نشر الفتوى مع بعض التنقيحات، وإضافة ملحقين، أحدهما حول: فقه الميزان في الكفارات، أما المحلق الثاني فقد خصصته لمناقشة ردود الفعل حول الفتوى.

الملحق الأول: فقه الميزان في الكفارات:

إذا قمنا بتطبيق فقه الميزان على (الكفارات) [1]، فإننا نجد أنها لا تدخل في باب (العبادات المحضة والشعائر)، وإنما تدخل في (باب الجوابر) عند جمهور الفقهاء، ومن (باب الزواجر) عند الشافعية[2]، كما أنها داخلة في الحقوق المفروضة لصالح المستحقين، ولذلك يبدأ جميعها بالجانب المالي.

فالجوابر قد شرعت لجبر ما فات من مصالح متعلقة بحقوق الله تعالى، وحقوق عباده، وذلك شرعت مع الجهل والخطأ والنسيان، وعلى المجانين والأطفال أيضًا.

أما الزواجر فقد شرعت لدرء المفاسد، وزجر العصاة، ومنع العدوان، لذلك فهي لا تشرع إلاّ في حق مَنْ له أهلية الأداء (قاعدة عامة) أي فهي مشروعة لدرء المفاسد، كما أن الجوابر لطلب المصالح وتحقيقها[3].

والذي يقتضيه فقه الميزان هو أن الكفارات من ميزان الجوابر لأنها يراد بها جبر الخلل الذي ارتكب، وتحقيق قربة إلى الله تعالى وتحصيل التكافل الاجتماعي من خلال توفير المال للفقراء والمساكين، او تحرير رقبة، حيث اشترط في جميعها تقديم هذا الجانب، ثم إذا لم يتوافر المال ينتقل إلى الصيام.

وقد رجح سلطان العلماء أن الكفارات من الجوابر، فقال: (والظاهر أنها جوابر، لأنها عبادات وقربات لا تصح إلاّ بالنيّات، وليس التقرّب إلى الله زاجرًا، بخلاف الحدود والتعزيرات) [4].

ويترتب على الخلاف السابق ما يأتي:

أ- أن الجمهور لم يلحقوا القتل العمد بالقتل الخطأ في وجوب الكفارة، لأنها تقوم عندهم على الجبران، وهذه لا تتحقق مع القتل العمد، وكذلك لم يوجبوا في اليمين الغموس، وخالفهم الشافعية فأوجبوا في الحالتين السابقتين الكفارة، لأنها تقوم عندهم على الزجر، وهو أكثر تناسبًا معهما[5].

ب- العلة في وجوب الكفارات عند الجمهور: الجبران، وعند الشافعية: الزجر.

ج- وبناء على ما سبق فإن الكفارات فيها الجانب التعبدي الذي يتعلق بما ذكرته النصوص القطعية من حيث الترتيب، كما هو الحال في كفارة القتل والظهار ونحوهما، أو عدم الترتيب كما هو الحال في كفارة اليمين حيث فيها التخيير بين ثلاثة أشياء، ثم الانتقال إلى الصيام إذا لم يستطع الحانث أحد الأمور الثلاثة.

ولكن الكفارات ليست من ميزان العبادات المحضة، بل فيها المواساة وسد خلة الفقراء ونحوها، لذلك فالاجتهاد فيها سائغ ما دام لا يتعارض مع النص مثل حالة عدم وجود العبيد مع الاستطاعة المالية فهل تنتقل الكفارة إلى الصيام، أم تدفع القيمة حسب الطريقة التي اعتمدنا عليها في الفتوى، وهي أننا توصلنا من خلال النصوص وشروح السلف بها بأن قيمة العبد في عصر الرسالة كانت خمسة جمال.

د- إن في حالة عدم قدرة الشخص على عتق رقبة يكون الانتقال إلى الصيام وفقًا للنصوص الشرعية، أما في حالة قدرة الشخص واستطاعته، ولكن ألغي نظام الرّق في العالم أجمع، فهذه نازلة جديدة قابلة للاجتهاد والقياس، حيث يمكن إلحاقها بحالة عدم القدرة والاستطاعة، فهذا اجتهاد قائم على القياس أيضًا، كما يمكن الاجتهاد بأن تعطى قيمة (العبد) فهذا اجتهاد صحيح أيضًا، وله سابقة لدى الحنفية الذين يجيزون دفع القيمة في جميع الكفارات – كما سبق بيانه في الفتوى-

كل ما فعلناه نحن هو الوصول إلى تلك القيمة وهي أنها تعادل خمسة جمال أو قيمتها (حسب سعر اليوم في حدود 4110 دولار).

ولذلك فاجتهادي هذا يتوافق مع فقه الميزان، لأنه ليس اجتهادًا مخالفًا للنص، وإنما تفسير لكيفية الانتقال من حالة إلى حالة – كما سبق -.

وكلي رجاء بأن يمنحني الله عزل وجل عليه الأجرين وهو واسع الرحمة والكرم.

الملحق الثاني: حول ردود الفعل على الفتوى:

لما أصدرت هذه الفتوى في 1 صفر 1436هـ نالت استحسانًا من الكثيرين، والحمد لله، واعتبروها اجتهادًا جديدًا ومؤصلاً يحل مشاكل هؤلاء الذين وجبت عليهم الكفارة بعتق رقبة، ولكنهم لا يجدون رقبة (أي عبدًا) في عصرنا الحاضر، وبالتالي يجب الانتقال عند المفتى به إلى صيام شهرين متتابعين، فهذا من الصعوبة بمكان بل الأخطر من ذلك عندما تجب أكثر من كفارة كما في حالات قتل الخطأ في حوادث السيارات، حيث قد يموت فيها أكثر من واحد، قد يصل إلى عشرة أشخاص، أي عشرين شهرًا.

ومن هذا الباب كتب الأخ الفاضل الدكتور عبد الله بن حمد السكاكر بحثًا قيمًا في 18 ذي القعدة 1438ه أيّدني فيه بقوة.

وكتب كذلك الأخ الفاضل الأستاذ وليد أبو نجا ردًا على فتواي عنونه: (ردًا على فتوى القره داغي: قيمة رقبة إنسان تقدر بملايين الريالات) حيث بدا بالخلط منذ العنوان، فقد فهم من كلامي بأن قيمة رقبة العبد (فتحرير رقبة) خمسة جمال: أنني أستهين بدية الإنسان، فأنا هنا أتحدث عن جانب فقهي، والرد عليه كالآتي:

أولاً- أن تقدير قيمة العبد (الرقبة) بخمسة جمال ليس مني، وإنما من الرسول صلى الله عليه وسلم – كما سبق – بيناه في الفتوى.

ثانيًا- أن العبد كان يباع ويشترى في الأسواق بأقل من ذلك أو أكثر، وكما قلت هذا كان السائد في كل الحضارات، فجاء الإسلام لحلّ هذه المشكلة بتدرج.

ثالثًا- أن تقدير دية الإنسان في الخليج كانت تقدر بخمسين ألف ريال، ثم مائتي ألف ريال، وأخيرًا بثلاثمائة ألف ريال، وفي مصر اختارت دار الإفتاء أن تكون دية القتل للذكر 35,7 كليو جرام من الفضة الخام تسهيلاً على الناس، وهي تعادل بالدولار – حسب قيمتها اليوم- 19,755 دولارًا أي تعادل 72,105 ريالاً قطريًا.

فأين قيمة رقبة الإنسان تقدر بملايين الدولارات؟

رابعًا- وهناك ملاحظات على ملاحظاته:

الأولى- أراد أن ينقض فتواي بأن المالكية لا يشترطون الترتيب في كفارة الجماع.

والجواب عن ذلك: أن الفتوى عامة، تعمّ جميع الكفارات التي يجب فيها الترتيب الذي يبدأ بعتق رقبة، ثم بصيام شهرين، وتشمل الكفارة أيضًا في الجماع في نهار رمضان عند جمهور الفقهاء الذين اشترطوا الترتيب، وحتى المالكية لهم قول بوجوب الترتيب، قال العدوي على قول خليل: (والمعروف أنها على التخيير: ومقابله أنها على الترتيب) [6].

الثانية: يقول أ.وليد: (سيطرت الاستطاعة المالية على الدكتور في فتواه…).

والجواب عنه: ذلك هو منهج القرآن والسنة فجميع الكفارات تبدأ بالعتق وهو لا يتحقق إلاّ للمستطيع، وبعضها مثل كفارة اليمين تبدأ بالخيار في ثلاثة أشياء مالية، وهي: إطعام عشرة مساكين، وكسوتهم، وتحرير رقبة مالية، ثم قال تعالى: (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ)[7]، وفي الحج: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[8].

والخلاصة أن جميع الكفارات تبدأ بالاستطاعة المالية، ثم عند العجز تنتقل إلى الصيام، وحتى المالكية الذين لم يشترطوا الترتيب في كفارة الجماع في نهار رمضان (ونحوه) فضلوا الترتيب، بل فضلوا الإطعام، يقول سيدي خليل: (وهو- أي الإطعام – الأفضل) وقال الدسوقي: (لأنه أكثر نفعًا لتعديه لأفراد كثيرة، والظاهر ان العتق أفضل من الصوم، لأن نفعه متعد للغير دون الصوم)[9].

وحتى الصيام والحج جعل الله لتدارك النقص فيهما أو لملء خلل فيهما بالكفارة المالية أولاً، بل جعل صدقة الفطر (طهرة للصائم وطعمة للمساكين)[10].

كل ذلك وغيره يفهم منه أن منهاج هذا الدين هو تحقيق ما ينفع الناس ويزيل الفقر والرّق، ويحقق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، إذن فمنهج الدكتور – على حد تعبيره – صحيح متفق مع مقاصد الإسلام والحمد لله.

وأضاف أ. وليد أبو نجا في نقده للفتوى بجملة غريبة لدى الفقهاء، وهي: (ثم لماذا نتصور أن من وجبت عليه الكفارة في الماضي سيذهب لشراء الرقبة التي يعتقها..، فربما كان مالكًا رقبة….).

والذي يملك الرقبة هو مستطيع مالي أيضًا، فلم يخرج عن دائرة الاستطاعة المالية.

الثالثة: اتهمني اتهامًا غير مقبول فأسند إليّ ما لم أقلهُ ولا فكرتُ فيه، عندما قال: (فجعل -أي القره داغي- اجتهاده الذي لم يسبق إليه أولى وأوضح من اتباع النص وما عليه عمل الأمة…).

سبحان الله كان كل جهدي يدور حول النصوص الشرعية، والاجتهاد فيها، وليس تجاوزها، أو تفضيل اجتهادي -معاذ الله- على اتباع النفس.

أ- فقد اتجه اجتهادي نحو لفظ (رقبة) فوجدتها نصًا محتملاً لأكثر من معنى، وأن معنى (الرقبة) في وضع اللغة هو مؤخر أصل العنق، وجمعها (رقاب) وقد استعملها القرآن الكريم في هذا المعنى (فَضَرْبَ الرِّقَابِ)[11] وبمعنى الرقابة، وبمعنى العبد المملوك[12].

وبناء عليه فلا يمكن لغويًا إلاّ أن يكون لفظ (رقبة) مشتركًا لفظيًا، أو أنه حقيقة مؤخرة العتق، ومجازًا شائعًا ومشهورًا في الرّق والعبد المملوك، أي من باب إطلاق الجزء على الكل مثل إطلاق (العين) على الجاسوس.

فعلى كلا الاعتبارين فليس لفظ (رقبة) نصًا خاصًا بالرقيق لا يحتمل غيره.

فلذلك فإطلاق النص على أحد معانيه المشتركة، او المجازية جائز، ولم يعدّه أحد من علماء الأصول، والفقه واللغة، والبيان خروجًا من النص، ناهيك عن أن يكون (اجتهادًا مقدمًا على النص).

ثم إن ما قمت به هو اجتهاد داخل النص، وليس خارج النص.

ب- وأما أن (الرقبة) بمعنى الرقيق تعادل خمسة جمال فقد أخذته من الحديث الصحيح (البخاري 7317، ومسلم 1683) الذي جعل دية الجنين غرّة: عبدًا أو وليدة، هذا إذا انفصل ميتًا كاملاً، أما إذا انفصل حيًا ثم مات بسبب الجناية عليه ففيه دية كاملة[13]، ثم إن الفقهاء متفقون على أن ذلك يقدر بنصف عُشر دية المسلم، أي خمسة جمال، أو كما ذكرناه في الفتوى.

فهنا اعتمدت على الحديث الصحيح في تقدير دية الجنين الذي ولد ميتًا لسبب الجناية، ثم على رأي الفقهاء جميعهم أو جمهورهم في تقدير ذلك بخمسة جمال أو خمسين دينارًا ذهبيًا، أو ستمائة درهم فضي.

فأين الخروج على النص، أو على (ما عليه الأمة).

ج- إن علماء الأمة فسّروا قول النبي صلى الله عليه (غرّة: عبد أو وليدة) بخمسة جمال، أو خمسين دينارًا…الخ في ظل توافر العبيد والجواري، قال ابن رشد: (واتفقوا على أن قيمة الغرّة الواجبة في ذلك.. محدودة بالقيمة عند الجمهور هي نصف عُشر الدية) [14].

وأنا الفقير إلى الله تعالى جئت -بتوفيق الله- ربطت بين ما ورد في الكتاب والسنة، وأقوال الفقهاء في مسألة الدية، وبين عصرنا الحاضر الذي ألغي فيه الرّق بجميع أنواعه، فوجدت ان اتفاقهم على جواز دفع نصف عُشر الدية في الجنين المذكور مخرج قوي لجعل خمسة جمال، أو خمسين دينارًا ذهبيًا بديلاً عن تحرير رقبة.

د- ثم إن فتواي مقيدة بما نحن عليه اليوم، حيث لا يوجد الرقيق، وبالتالي نرى أن فتوى المعاصرين بقول الانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع أن الشخص مستطيع قادر على دفع القيمة هي أيضًا اجتهاد.

وبالتالي فالنازلة جديدة من هذا الجانب، حيث إن فقدان الرقيق كان غير متصور في العصور السابقة، فلذلك كان الانتقال إلى الصيام مرتبطًا بعدم الاستطاعة المالية، أما اليوم فمع وجود الاستطاعة المالية لا يوجد رقيق فهنا نحتاج إلى اجتهاد جديد.

فهؤلاء اجتهدوا في الانتقال إلى الصيام مع الاستطاعة المالية، فهذا في الواقع اجتهاد مخالف، لما كان عليه الفقهاء السابقون وأئمة المذاهب الفقهية القائلين بأن المستطيع ماليًا يجب عليه أولاً أن يعتق رقبة (في الحالات السابقة) ثم إن لم يجد فيصوم…

ولكني اجتهدت فأبقيت حكم الأصل العام أي رعاية الاستطاعة في حالة عدم وجود الرقيق حسًا وقانونًا، وهو دفع خمسة جمال التي عدّها جماهير الفقهاء أنها تساوي عبدًا أو جارية، الوارد في النص الصحيح.

فكان الأولى بالأخ وليد أن يوازن بين الاجتهادين ولا يلقي بهذه التهجمية الزائفة التي فيها اتهام بما يقرب من التكفير على عادة التكفيرين الذين يتهمون المخالفين بأنهم (جعلوا اجتهادهم أولى وأوضح وأقوى من اتباع النص) أقول: اتق الله تعالى وسوف تُسأل عنه يوم القيامة.

تحرير محل النزاع:

فلو كان ممارسًا للفقه وأصوله لحرر محل النزاع، فإن نزاعي وخلافي ليست مع النصوص، ولا مع الفقهاء القدامى أبدًا، وإنما خلافي مع المعاصرين في عصر لا يوجد فيه رقيق (رقبة) فقالوا: تنتقل الكفارة مباشرة إلى الصيام حتى ولو كان مستطيعًا، وأما الفقير إلى الله، فقد قلت: ينتقل من الرقبة إلى قيمتها، فهذا هو محل النزاع.

ه- أما قوله أن فتواي مخالفة (لما عليه الأمة).

 فأقول له: من أين لفضيلته هذا الحكم العام بأنها مخالفة لما عليه الأمة كلها؟ هل خاض في كتب التفسير، والسنة، وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، فوصل إلى أن فتواي مخالفة لما عليه الأمة، فهذا ادعاء كبير، ولذلك كان الإمام أحمد يقول لمن لم يتأكد من تحقق الإجماع: (من ادعى الإجماع فقد كذب وما يدريك لعلهم اختلفوا)[15]وكذلك طالب الإمام الشافعي بضرورة التأكد[16].

ومما يبطل ادعاءه الإجماع أن الحنفية أجازوا دفع القيمة في جميع الكفارات أيضًا- كما بينت ذلك في الفتوى –

الرابعة: ذكر أن قياسي إخراج قيمة الرقبة على إخراج قيمة الزكاة ونحوها قياس مع فوارق، ثم قال: فمقصود الزكاة سدّ خلّة الفقير.. لكن مقصد تحرير رقبة إنسان من ذلّ الرق، لا يتحقق بدفع قيمة هذه الرقبة..

ولي الملاحظات الآتية على ما قاله:

1- أن ما ذكره من سد خلّة الفقير، وإنقاذ الرقيق من الذل، ونحوهما يدخل -حسب علم أصول الفقه- في الحكم والغايات وليس في العلل المؤثرات، فالقياس مع الفارق هو أن يوجد قادح مؤثر في منع تحقيق العلة في الفرع، وهنا لا يوجد فارق مؤثر.

2- إن الكفارات كلها تتفق مع الزكاة في أنها تصرف للفقراء والمساكين لسد حاجياتهم، وأن تحرير الرقبة يحقق هذا المقصد في أعلى مراتبه، فالعبد في أشد الحاجة إلى تحريره الذي عد أهم مقصد للإنسان.

3- ثم إن ما ذكره من أن مقصد تحرير رقبة إنسان من ذلك الرّق لا يتحقق بدفع قيمة هذه الرقبة، إنما يصح لو كان الأرقاء موجودين، وفي هذه الحالة لا يجوز دفعه القيمة، بل يجب تحقيق ما نص عليه القرآن حسب الترتيب.

وأما فتواي وكلامي حول عدم وجود هؤلاء- والحمد لله- فهل ننتقل إلى الصيام، أم ندفع قيمة العبد حسب تقدير السلف الصالح بخمسة جمال، أو نحو ذلك…

4- ثم إنني في الحقيقة لم أعتمد على القياس حتى يقول بأن قياس لا يصح، وإنما اعتمدت على أدلة كثيرة، كما ذكرتها في الفتوى، ولو قست لجعلت العلة الجامعة هي الحقوق المالية المفروضة للمستحقين، وحينئذ تجتمع الكفارات في مراتبها الأولى مع زكاة المال وزكاة الفطر في جواز دفعهما بالقيمة عند جماعة كبيرة من الفقهاء.

الخامسة: اعترض على تقديري قيمة خمسة جمال بعشرة آلف ريال، ويقول إن قيمتها عشرون ألف ريال، ويبدو أنه لم يفهم عبارتي بأن الأصل هو خمسة جمال، وبالتالي فهذه القيمة تتغير بتغير قيمتها من حيث الزمان والمكان.

السادسة: أسند إليّ ما لم أقله، بل قلت عكسه عندما قال: لم يضع الدكتور في الحسبان أثر (تغير الزمان).

وهذا ما أكدت عليه في قيمة الجمال، أما نظام العبد فقد انتهى، فكيف نقدر بوجوده، بل إن فتواي تعتمد على تغير زماننا، حيث انتهى فيه نظام الرّق، في حين أنه كان سائدًا.

السابعة: كما أسند إليّ أنني لم أقدّر (ما يترتب على فتواي من التشنيع على الإسلام، الدين الذي كرم العبيد…الخ)

فهذا داخل في سوء الظن بي، كما أنه أيضًا غير صحيح فقد أكدت في بداية الفتوى موقف الإسلام من الرّق فكيف وضع منهاجًا للقضاء عليه، ومن خلال تضييق مصادره، وفتح مخارج العتق ومنافذه، ومنها هذه الكفارات، وتخصيص ثمن ميزانية الزكاة لذلك.

فأنا في هذه الفتوى في مناقشة فقهية للوصول إلى علاج مشكلة، لذلك يمكن الاستدلال بكل ما هو ثابت في الشريعة من الأدلة المعتبرة.

وأخيرًا فعلى الرغم من أن أ. وليد أبو نجا، مثل أحد أولادي في العمر الطبيعي، والعمر العلمي وأن تخصصه ليس في الفقه والأصول، ولكنه وضع نفسه حاكمًا عليّ، وقاطعًا بصحة قوله، وخطّأ قولي ولذلك قال: (وأدعوه إلى مراجعة الفتوى بناء على هذه الملاحظات، لا سيما الأخيرة) ثم تنبأ بأن ملاحظات كثيرة سترد إليّ من إخواني العلماء وطلبة العلم.

وأبشره بأن الذي وصلني والحمد لله، من أهل الاختصاص والتواضع هو التأييد والتقدير، منها بحث قيّم من الدكتور عبد الله بن حمد السكاكر، حيث أيدّ رأيي بقوة، وأشاد بفتواي إشادة كبيرة.

والله يعلم أنني ما كنت أود أن أرد على الأخ وليد لو كان ما كتبه ردًا علميًا تتوافر فيه المعايير، ولكنه مع الأسف الشديد مليء بكلام غير دقيق مع بعض الاتهامات، غفر الله لي وله، كما أن الفتوى بعد ردّي هذا أصبحت أوضح.

وعمومًا نحن نقصد في فتوانا إرضاء الله تعالى فقط، ثم حلّ مشاكل الناس، وهي قابلة للخطأ والصواب، فإن كانت خطًا فأسأل الله تعالى أن يجزيني على جهدي ونيتي ولا يحرمني من الأجر، وأسأله سبحانه أن يكرمني الأجرين بفضله ومنّه إنه سميع الدعاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه الفقير إلى ربه

أ.د. علي محيى الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

وأستاذ الشريعة والاقتصاد الإسلامي بجامعة قطر

 الدوحة في 21 شوال 1441هـ  الموافق 13 June 2020  

([1]) الكفارات في الإسلام خمسة، وهي: كفارة اليمين، والظهار، والقتل، والإفطار، ففيها عتق رقبة على التفصيل، وكفارة حلق الشعر ومال الحق بها في باب الحج وليس فيها العتق.

([2]) يراجع لمزيد من التفصيل: فتح القدير على الهداية (10/209-210) والمبسوط (8/127) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/286) وبداية المجتهد (1/299) والمهذب (2/218) والمغني (8/96) وكشاف القناع (6/232)

([3]) قواعد الأحكام للعز بتحقيق د. نزيه ود. عثمان (1/263) والفروق للقرافي (1/213) وموسوعة القواعد الفقهية، القاعدة 33

([4]) قواعد الأحكام (1/363)

([5]) المصادر السابقة

([6]) حاشية العدوي على شرح الخرشي (3/254)

([7]) سورة المائدة / الآية 89

([8]) سورة البقرة / الآية 196

([9]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/522)

([10]) هذا جزء من الحديث الذي رواه أبو داود 1609، والدارقطني (2/327) وحسّنه النووي في المجموع (6/126) بل صححه ابن الملقن في البدر المنير (5/618) وفي شرحه على صحيح البخاري (10/636)

([11]) سورة محمد: 4، ويراجع بحثنا: حول مصرف ( وفي الرقاب) المنشور في الحقيبة الاقتصادية ط.دار البشائر الإسلامية (12/401)

([12]) يراجع: القاموس المحيط، ولسان العرب، ومختار الصحاح، المعجم الوسيط، بل كتب اللغة في مادة (رقبة)

([13]) شرح النووي على صحيح مسلم (11/325)

([14]) بداية المجتهد (6/7)

([15]) هذه الرواية رواها عن أحمد ابنه عبد الله، يراجع العدة (4/1060)، وإبطال التحليل لابن تيمية ص 275

([16]) الرسالة ص 534

آخر الفتاوى