فتوى حول: حكم دخول النساء المسلمات للمساجد لأداء الصلوات

الجواب:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

أولاً – لقد كان علماؤنا في العصور الخيرّة (القرون الثلاثة الأول) لا يكتفون ببيان الأحكام الشرعية لمستجدات عصرهم فحسب، بل كانوا يستشرفون المستقبل من خلال وضع الحلول الشرعية لما كانت تجول في أفكارهم من مسائل مستقبلية احتمالية اشتهر بها علماء العراق (الأحناف) حتى سموا (أريتيّة) أي: أرأيت إن كان كذا، وبعبارة أخرى استحضار الاحتمالات المستقبلية من خلال الحصر العقلي لها، ثم بيان الحكم الشرعي لكل حالة محتملة حيث قالوا: أرأيت لو أن امرأة من المغرب تزوجها رجل من المشرق عند الغروب، ثم مات عند الشروق، ثم تبين أنها حامل فولدت بعد ستة أشهر من هذا العقد؟ قالوا: إن الحمل يثبت منه بالفراش لاحتمال أنه طار بالليل إليها، ثم عاد فمات، وهكذا….

وإضافة إلى ذلك فكان الزمن له دوره في التأثير في الفتاوى الاجتهادية، حتى عقد الإمام ابن القيم فصلاً مهمًا من كتابه القيم (اعلام الموقعين عن ربّ العالمين) خصصه لتغيير الفتاوى بتغيير الأزمنة والأمكنة، والأحوال والنيات والعوائد، وقال: (هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الجد إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، حاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة) يراجع: اعلام الموقعين ط. الكليات الأزهرية (3/ 3-47) .

ومن هذا الباب كثير من الفتاوى الصادرة المتعارضة في الظاهر من علمائنا الأعلام، حيث نجد لهم جميعًا آراء متنوعة، وروايات مختلفة وأقوالاً متعارضة في الظاهر، فهذا الإمام الشافعي حينما دخل مصر أعاد النظر في جميع ما كتبه، حتى يقول تلامذته إنه أعاد كتابة كل ما كتبه قبل دخوله مصر إلاّ كتاب الصداق، فظهرت له أقوال جديدة في مقابل أقواله القديمة. المجموع للنووي (1/ 66) ط. شركة العلماء.

وهذا ما نراه أيضًا في المسائل المتعلقة بالمرأة، ومنها خروجها للصلاة،

ثانيًا – مما لا يختلف فيه أحد أن الموالاة التي فرضها الله تعالى على المسلمين شاملة للذكر والانثى، وكذلك الولاية فقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)سورة التوبة / الآية 71 ومن المعلوم أن هذه الولاية تشمل كل جوانب الحياة، وعلى رأسها الولاية السياسية من حيث المبدأ.

وكذلك المساواة في حرية الاعتقاد والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة النحل / الآية 97 ويقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة / الآية 71 ويقول تعالى:(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب / الآية 35.

ثالثًا- تفسير قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ….)سورة الأحزاب / الآية33 فيجاب عنه بما يأتي:

أ ـ أن المخاطبات بالآية الكريمة هنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم حيث تبدأ الآية الكريمة (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا) سورة الأحزاب / الآية 32.

فالآية نص في خطاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهنّ لسن كبقية النساء، فكيف يعمم الالزام في جميع الأحكام لبقية النساء؟

فهؤلاء لهنّ مقام عظيم، وخصوصية بسبب كونهنّ أزواجًا للرسول القائد صلى الله عليه وسلم ولا سيما أن هذه الآيات نزلت بعد حادثة الافك التي هزت المجتمع الإسلامي وشلّت حركته طوال أربعين يومًا، وبالتالي فاقتضى التشريع وضع قيود صارمة عليهنّ، ولذلك خيرهنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى قبل هذه الآية بين البقاء، والطلاق فاخترن الله ورسوله، وحينئذ نزلت عليهنّ تشريعات خاصة بهنّ للالتزام بهنّ، ومنها الأمر بالقرار في البيوت حماية لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ب ـ أن المقصود بـ (وَقَرْنَ) ليس عدم الخروج مطلقًا، ويدل على ذلك خروج بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج والعمرة والجهاد، وأداء صلة الرحم.

ج- ومما هو جدير بالتنبيه عليه هو: أن المرأة المسلمة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تستجيب لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد وغيره، فهذه أم سلمة كانت تنصت إلى خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفير إلى بني قريظة فتستجيب صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (7/441) وصحيح مسلم ـ مع النووي ـ (7/144)، وقالت في حادثة أخرى حينما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس) لماشطتها (أي المرأة التي تمشط شعرها): استأخري عني: فقالت الماشطة: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت إني من الناس….) مسلم، كتاب الفضائل (7/67) مع شرح النووي أي أن المرأة من الناس فتطبق عليها ما تطبق عليهم.

وكذلك فعلت فاطمة بنت قيس حينما سمعت نداء الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصلاة جامعة) انطلقت لتسمع ما هو المطلوب منها.

رابعًا- قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) متفق عليه. حيث نهى عن منعهنّ، ويدل الحديث الشريف على ثبوت حقهن في مشاركة المساجد، فالأصل في الأحكام التكليفية -كما سبق – أن الأصل هو المساواة كما دلت على ذلك الآيات التي ذكرناها ويؤكدها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (النساء شقائق الرجال) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، بالإضافة إلى ما جرى عليه العمل في حياته صلى الله عليه وسلم، ومن بعده في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فكان النساء يخرجن إلى المساجد ويشهدنها للجماعة والجمعة، وغير ذلك.

وهذا ما بيناه وأثبتناه في فتاوانا حول حقوق المرأة في غير ديار الإسلام.

هذا والله أعلم بالصواب

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

        كتبه الفقير إلى ربه

                                   أ.د. علي محيى الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 الدوحة في 21 محرم 1441هـ  الموافق22 September 2019     
آخر الفتاوى