السؤال: فضيلة الشيخ علي القره داغي حفظه الله:
فقد سعينا منذ فترة لإنشاء جامعة علمية إسلامية تخدم الأقلية الإسلامية في الهند في ظل ظروف صعبة اقتصاديًا وسياسيًا، حيث إن الأقلية تعيش في ظل فقر مدقع، وتخلف كبير. وبناءً على ذلك فقد قامت الجامعة بجهود من الداخل، وجهود الخيرين من الخارج.
والسؤال الملح هو: أننا لا زلنا بحاجة ماسة وملحة للأموال لاستكمال مباني الجامعة، ولا نجد الأموال الكافية لتحقيق هذا الغرض، ولكن قد نجد بعض الخيرين مستعدين لدفع جزء من زكاتهم لذلك، إذا وجدوا فتوى معتبرة من أمثالكم من المتخصصين في المعاملات المالية والاقتصاد الاسلامي، لذلك نعرض أمرنا على فضيلتكم سائلين الله تعالى أن يلهمكم الصواب ويسدد خطاكم،،، آمين.
الجواب:
إن هذه المسألة من المسائل المعاصرة الشائكة التي لم يتناولها الفقهاء القدامى بمزيد من البحث والتأصيل كما هو الحال بالنسبة للمسائل المشهورة والنوازل الخاصة بعصورهم.
غير أن المعاصرين تناولوا هذه المسألة بشيء من التفصيل والتأصيل واختلفوا فيها، فمنهم من أجاز، ومنهم من منع، لأن الزكاة لا بدّ فيها من التمليك بالإضافة إلى أنها تتأخر في الوصول إلى أصحابها المستحقين، وممن أجاز ذلك سماحة الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال: (وبناءً على هذا المذهب ـ أي مذهب الشافعي ومن معه في إغناء الفقير من الزكاة ـ تستطيع مؤسسة الزكاة إذا كثرت مواردها واتسعت حصيلتها أن تنشئ مؤسسات تجارية، أو نحو ذلك من المشروعات الانتاجية الاستغلالية، وتملكها للفقراء كلها، أو بعضها لتدر عليهم دخلاً دوريًا يقوم بكفايتهم كاملة، ولا تجعل لهم الحق في بيعها، ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفة عليهم)، يراجع: مجلة المجتمع الكويتية، عدد 793 ص34.
ويرى آخرون هذا الرأي مثل الدكتور عبد العزيز الخياط، أن توظف بعض أموال الزكاة في المشروعات الخيرية والصناعية والتجارية لصالح جهات الاستحقاق. يراجع بحثه بعنوان: توظيف أموال الزكاة، المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثالثة .
وقد صدرت في هذا الموضوع فتاوى جماعية من الهيئة الشرعية العالمية للزكاة في ندوتها الثالثة التي ضمت 34 عالمًا وباحثًا شرعيًا، واقتصاديًا، هذا نصها:
(3- يجوز إقامة مشروعات خدمية من مال الزكاة كالمدارس والمستشفيات والملاجئ والمكتبات بالشروط التالية:
أ – يفيد من خدمات هذه المشروعات مستحقو الزكاة دون غيرهم إلا بأجر مقابل لتلك لخدمات يعود نفعه على المستحقين.
ب – يبقى الأصل على ملك مستحقي الزكاة ويديره ولي الأمر، أو الهيئة التي تنوب عنه.
ت – إذا بيع المشروع أو صفي كان ناتج التصفية مال زكاة.) يراجع: فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة، فتاوى وتوصيات الندوة الثالثة ص 80.
بل إن مجمع الفقه الإسلامي الدولي قد حسم المسألة حيث نص في قراره (15(3/3) على أنه: (يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها، على أن يكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر) يراجع مجلة مجمع الفقه، العدد3 الجزء1 ص 309.
رأيي في هذه المسألة:
وبناءً على ما سبق فإنه يجوز ـ في نظري ـ لهؤلاء الخيرين أن يدفعوا جزءًا من زكواتهم لبناء مبنى لإحدى الكليات بالشروط الآتية:
- أن تخصص للطلبة الفقراء والمحتاجين، وإذا دخلها طالب غني يُؤخذ منه الأجر، ثم يصرف على شؤون الكلية.
- أن تكتب إدارة الجامعة وثيقة بأن ذلك المبنى خاص بالفقراء والمحتاجين وأن مصير ذلك المبنى في حالة التصفية: أنه يملك للفقراء والمساكين، أو يملك لجمعية خيرية مماثلة تتعامل معه على ضوء الشرط السابق.
هذا إذا اعتبرنا ذلك داخلاً في مصرفي الفقراء والمساكين اللذين يحتاجان إلى التمليك والتملك.
أما إذا نظرنا إلى مصرف (وفي سبيل الله) الذي لا يحتاج إلى تملك أو تمليك ـ كما يقول الفقهاء ـ فحينئذ يجوز صرف جزء من الأموال الزكوية لبناء مباني هذه الجامعة الواقعة في داخل أقلية إسلامية فقيرة محتاجة إلى العلم والتعليم أكثر من حاجتها إلى الطعام والغذاء، وقد قال علماؤنا أن العلم حياة، وأن الجهل موت.
وبناء على ذلك فإن هذه الجامعة الإسلامية ـ التي لي إطلاع عليها ـ في ظل ظروفها الخاصة تدخل في نظري في مصرف (وفي سبيل الله) لأنها جامعة دعوية، ولأن الدعوة بالعلم أكثر تأثيرًا من الدعوة بالوعظ والارشاد، ولأنها داخل أقلية مستضعفة ولذلك فإن الفتوى بجواز دفع الزكاة إلى هذه الجامعة خاص بالجامعات الإسلامية الملتزمة في خارج العالم الإسلامي، أو داخل أقلية إسلامية غير قادرة، ولا يجوز تنزيلها على غير ما ذكرناه في هذه الفتوى، وهذه الفتوى مدعومة بفتوى الهيئة الشرعية للهيئة العالمية لقضايا الزكاة المعاصرة في ندوتها الأولى بالقاهرة والتي حضرها 51 عالمًا وباحثًا واقتصاديًا، ونصت على ما يأتي:
(ج – تمويل مراكز الدعوة إلى الإسلام التي يقوم عليها رجال صادقون في البلاد غير الإسلامية بهدف نشر الإسلام بمختلف الطريق الصحيحة التي تلائم العصر وينطبق ذا على كل مسجد يقام في بلد غير إسلامي يكون مقرا للدعوة الإسلامية.
د – تمويل الجهود الجادة التي تثبت الإسلام بين الأقليات الإسلامية في الديار التي تسلط فيها غير المسلمين على رقاب المسلمين، والتي تتعرض لخطط تذويب البقية الباقية من المسلين في تلك الديار.) يراجع: فتاوى وتوصيات ندوات قضايا الزكاة المعاصرة، فتاوى وتوصيات الندوة الأولى ص 35.
وقد قال الإمام الرازي: (واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: (وفي سبيل الله) لا يوجب الحصر على كل الغزاة، فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون، وعمارة المساجد، لأن قوله تعالى (وفي سبيل الله) عام في الكل) يراجع: التفسير الكبير (16/113).
ونحن لسنا مع هذا التوسع، كما أننا لسنا مع تضيّق دائرة (وفي سبيل الله) وحصرها في المقاتلين، وإنما نحن مع المنهج الوسط في فهم هذا النص، وهو شموله لكل أمور الدعوة، ولا سيما في خارج بلاد الإسلام والمسلمين، فكما أجازت الهيئة العالمية للزكاة صرف بعض الزكوات للمساجد والمراكز الإسلامية في بلاد غير الإسلام، فكذلك أجزنا صرف بعضها في الجامعات الإسلامية أو المدارس الملتزمة بالتربية الصحيحة التي توجد في ظل دول غير إسلامية.
هذا والله أعلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم