الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه، ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وبعد
ففي ظلّ توجه بعض الدول الإسلامية ومنها دولة قطر لفتح المساجد للجمعة والجماعات، ولكن بشرط الالتزام بالتباعد بين مأموم وآخر مسافة متر ونصف أو أكثر، وردتنا أسئلة واستفسارات حول صحة الصلاة بهذه الحالة، وهل يكتب للمصلي أجر الجماعة.
فالجواب عنها كالآتي:
أولاً – لا شك أن تراصّ الصفوف، وإتمام الصفّ الأول، ثم الذي يليه، والمحاذاة بين المناكب، وسدّ الخلل كل ذلك مما وردت به السنة الصحيحة الثابتة، ولذلك فهي من السنن المؤكدة عند جماهير الفقهاء؛ ولكن الوضع الحالي في ظل جائحة كورونا (كوفيد-19) فإن الاجراءات الاحترازية تقتضي التباعد الاجتماعي بين شخص وآخر بما لا يقل عن مترين أو متر ونصف على الأقل.
ثانيًا- جمهور الفقهاء ما عدا الحنابلة، لا يرون بطلان صلاة المنفرد خلف الصفّ.
وأما الحنابلة فقد قالوا ببطلان صلاة المنفرد خلف الصفّ، لكنهم فرّقوا بينها وبين مَنْ يأتمّ وبينهم فرجة أكثر من ثلاثة رجال، في ضوء ما يأتي:
أن الراجح لدى الحنابلة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن تسوية الصفوف واجبة، ولكن هل تبطل الصلاة بعدمها؟،
والراجح لديهم أيضًا عدم بطلانها، جاء في مطالب أولي النهى: (ولا تبطل الصلاة بقطع صفّ مطلقًا سواء كان وراء الإمام أو عن يمينه، إلاّ أن يكون قطع الصف عن يساره (أي الإمام) إذا بعد المنقطع بقدر ثلاثة رجال)[1]، وقد ذكر العلامة عثمان النجدي في حاشيته على شرح المنتتهى، اثنتي عشرة صورة، منها عشرة صحيحة، واثنتان تبطل فيهما الصلاة المنقطع….)[2].
والخلاصة أن الصورتين الباطلتين، هما:
1- أن يكون المأمومون عن يسار الإمام فقط، وبينهم فرجة بمقدار ثلاثة رجال أو أكثر، والمنقطع عن الصف مأموم واحد.
2- أن يكون المأمومون عن يسار الإمام، وبينهم فرجة بمقدار ثلاثة رجال فأكثر، والمنقطع عن الصف أكثر من مأموم.
أما لو وقفوا خلف الإمام، أو عن يمينه مع وجود فرجة فلا تبطل صلاتهم حتى عند الحنابلة على المذهب، لأنهم لم يعتبروا هذه الفرجة مثل انفراد شخص واحد خلف الصف، لوجود مَنْ يقف بموازاته من المأمومين.
3- ومع ذلك فإن الحنابلة – كما سيأتي – أجازوا تجاوز ذلك لعذر.
ثالثًا – وبناء على ما سبق، فالذي يظهر لي رجحانه أن صلاة هؤلاء المتباعدين في الصفوف صحيحة ولهم أجر الجماعة بفضل الله تعالى، في ظل خطر تفشي كورونا، وهو عذر مقبول مؤثر، تخريجًا على الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (زادك الله حرصًا ولا تعد)[3]، حيث ذهب جمهور الفقهاء إلى صحة صلاته مع الكراهة، ودون الإعادة، وذهب الحنابلة إلى بطلان صلاته إذا صلى منفردًا ركعة واحدة كاملة خلف الصف دون عذر؛ لحديث وابصة بن معبد الأسدي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره فأعاد الصلاة)[4]، وحمله الجمهور على استحباب الإعادة.
والكراهة تزول مع هذه الحاجة الملحة بإذن الله تعالى وبخاصة أن الوقوف خلف الصف يختلف عن وجود الفاصل بين المأمومين في صف واحد.
ويدل على أن الحاجة تذهب بالكراهية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المرأة أن تصلي ولو منفردة خلف صف الرجال في أحاديث مشهورة، كما أن هناك بعض الحالات لصلاة الخوف ينفرد فيها المأموم، أو يبتعد، أو يتقدم على الإمام، أجازها الفقهاء[5].
وقد أصلّ هذه المسألة عدد من العلماء المحققين مثل النووي وابن تيمية حيث جعلوا الحاجة سببًا لإسقاط كراهة صلاة المنفرد ونحوها، بل ذكروا صحة صلاة المرأة المنفردة بالاتفاق، قال ابن تيمية: (قضية المرأة تدل على شيئين، تدل على أنه إذا لم يجد خلف الصف مّن يقوم معه، وتعذّر الدخول في الصف صلّى وحده للحاجة، وهذا هو القياس، فإن الواجبات تسقط للحاجة..ـ كما سقط غير ذلك من فرائض الصلاة للحاجة مثل صلاة الخوف محافظة على الجماعة، وطرد ذلك إذا لم يمكنه ان يصلي مع الجماعة إلاّ قدّام الإمام فإنه يصلي هنا لأجل الحاجة أمامه، وهو قول طوائف من أهل العلم، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد)[6].
ثم قال: (وفي الجملة فليست المصافة أوجب من غيرها، فإذا سقط غيرها للعذر في الجماعة فهي أولى بالسقوط، ومن الأصول الكلية أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب)[7].
بل إن شيخ الإسلام اختار في الفتاوى الكبرى أن وجود الصف والاصطفاف أهم من سدّ الفرج حيث جاء فيه: (لو حضر اثنان، وفي الصف فرجة فأيهما أفضل: وقوفهما جميعًا، أو سدّ أحدهما الفرجة وينفرد الآخر؟ رجحّ أبو العباس الاصطفاف مع بقاء الفرجة؛ لأن سدّ الفرجة مستحب والاصطفاف واجب)[8].
ونحن اليوم نؤكد ما قاله الإمام النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمة، وغيرهما من علماء الأمة المحققين الأعلام، حيث جعلوا جميع ما يتعلق بالصفوف، من التراصّ والفرجة بين شخصين أو أكثر من ثلاثة رجال أهون من صلاة المنفرد خلف الصف التي وردت فيها النصوص، ومع ذلك صححوا صلاته وأثبتوا له أجر الجماعة إن وجد عذر مقبول، منه اكتمال الصف، فعذر تفشي جائحة كورنا أكبر وأخطر مما ذكروه؛ لأنه يتعلق بمقصد الحفاظ على النفس، كما أنه في حالة عدم الالتزام بالتباعد يترتب عليه ترك الجمعة والجماعة، وهذا أخطر.
هذا والله أعلم تعالى أعلم بالصواب
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د.علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وأستاذ الشريعة والاقتصاد الإسلامي بجامعة قطر
([1]) مطالب أولي النهى (1/695)
([2]) حاشية النجدي على شرح المنتهى (1/318)
([3]) رواه البخاري في صحيحه (750)
([4]) رواه أبو داود (682) وأحمد ( 15862) بلفظ” فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ فَلَا صَلَاةَ لِرَجُلٍ فَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ”.
([5]) يراجع: مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/406)
([6]) يراجع: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/599)