هل تدخل عقود البنوك الإسلامية والتأمين التكافلي تحت عقود الإذعان؟

صاحب الفضيلة الشيخ علي القره داغي حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد

أرجو الإجابة على هذا السؤال:

هناك عقود تسمى عقود الإذعان نحتاج إليها عند تعاقدنا مع مؤسسات الماء والكهرباء، ويقال: إنها لا تقوم على (التراضي) المشروط في الإسلام بنصّ الآية 29 من سورة النساء.

فهل هذا العقد صحيح؟ وهل علينا إثم إذا وقعنا مثل هذه العقود؟

ثم إن البعض يقولون: إن عقود البنوك الإسلامية والتأمين الإسلامي تدخل في عقود الإذعان؟ فهل هذا صحيح؟

أفيدونا أثابكم الله تعالى.

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد

 فقد تطرقت بإيجاز في رسالتي الدكتوراه: مبدأ الرضا في العقود ـ دراسة مقارنة ـ طبعة دار البشائر الإسلامية، وكذلك تطرقت إليه في كتبي الاقتصادية وبحوثي في المعاملات المالية.

وخلاصة رأيي هو ما يأتي:

 أن المراد بعقود الإذعان: الاتفاقيات النمطية التي تستقل بوضع شروطه أحد المتعاقدين دون أن يكون للمتعاقد الآخر حق مناقشتها، أو الاعتراض عليها[1].

والإذعان عقد جاء إلينا من القوانين الوضعية، ويسمى في اللغة الانجليزية (Submission) وبالفرنسية (obeissance).

والإذعان في اللغة العربية، مصدر أذعن أي انقاد، ويقال: أذعن بالحق أي أقرّ به، وذَعِنَ ذعنًا أي خضع وذل، والمذعان هو المطواع السلس القياد للمذكر والمؤنث[2].

 ووجه المناسبة بين هذا المعنى اللغوي هو أن الشخص الآخر يذعن للعقد دون حرية لمناقشة بنوده، ولذلك سماه الأستاذ السنهوري: عقد الإذعان، في حين أن الترجمة الدقيقة للمصطلح الفرنسي هو عقد (الانضمام)، أي أن الطرف الآخر ينضم إلى الطرف الأول في العقد دون أن يكون له دور في إعداد بنود العقد.

ولعقد الإذعان، أو الانضمام خصائص منها:

  • أن الإيجاب واحد بالنسبة للجميع، وأن شروط العقد وبنوده واحدة، ويلاحظ أن تلك الشروط تكون في مصلحة الموجب في الغالب.
  • أن دور الآخر يقتصر على التوقيع على العقد إن أراد، وليس له الحق في مناقشة البنود والشروط.
  • أن يتعلق العقد بسلع ومنافع تهم الجمهور الأعظم كالماء والكهرباء، والغاز.
  • أن يكون لواضع العقد القدرة على الاحتكار بحكم القانون، أو بحكم القوة الاقتصادية التي سيطر من خلالها على تلك الخدمة.

والذي أراه راجحًا هو كالآتي:

أولاً ـ إن محل العقد إن كان من السلع الضرورية مثل الماء والكهرباء والغاز ونحوها فيجب على الدولة أن تتدخل في الشروط والبنود والأسعار بما يحقق العدالة للطرفين.

وفي حالة ما إذا لم تتدخل الدولة فما الحكم في العقد المبرم بين الطرفين؟

فالذي أراه راجحًا هو ما يأتي:

أ ـ في حالة الاستغلال فإن الطرف المستغل المالك للخدمة يكون آثمًا إن كان قد استغل حاجة المستهلكين والمنتفعين بالخدمة، ولكن العقد الصحيح.

 وأنا أقيس هذا العقد في هذه الحالة على بيع المضطر الذي اختلف فيه الفقهاء، ولذلك نعرف به ثم نبين حكمه في ضوء ما هو الراجح:

التعريف بالاضطرار: لغة من الضرورة، فيقال: اضطره كذا أي دفعته الضرورة إلهي وليس له منه بُدّه[3].

وفي اصطلاح الفقهاء يطلق على هذا المعنى نفسه ـ أي أن تدفعه الضرورة للإقدام على إنشاء تصرف ـ حيث مثلوا له بأن يضطر شخص إلى البيع لدين أو مؤنة ترهقه أو إلى شراء لحماية نفسه أو نحو ذلك[4].

 وبناءّ على ذلك نقول فإن العقد صحيح، ولكن الواجب الإسلامي والتكافل الإيماني يقتضي أن يقوم الطرف الآخر بمساعدة المضطر وأن لا يستغل حاجته، بل يقرضه إن طلب ذلك، ويساعده لتحقيق كفايته، وإذا لم يفعل، بل استغل حاجته في أي شيء فإنه آثم فقط ولكن العقد صحيح.

ب ـ أما إذا كان هناك احتكار فإن حكم المحتكر يُنّزل عليه بشروطه وضوابطه مع أن رأيي هو التوسع في دائرة مفهوم الاحتكار حيث يشمل كل السلع الضرورية، والحاجية حاجة عامة.

ثانيًا ـ إن كان محل العقد غير الضروريات وإنما يكون من الحاجيات، فهنا ان كانت من الحاجيات العامة فإنها تنزل منزلة الضرورات الفردية.

ثالثًا ـ هل تدخل الخدمات المصرفية وعقود التمويل والمقاولات ونحوها في عقد الاذعان إذا قام الطرف المالك، أو مقدم الخدمة بصياغة العقود النمطية كما يحدث الآن في معظم المؤسسات المالية؟

إن رأيي في هذه المسألة يقوم على التفصيل الآتي:

أ ـ إن كانت هذه الأشياء أو الخدمات تدخل ضمن الخدمات الضرورية أو الحاجية العامة فإن على المؤسسة المقدمة للخدمة أن تضع العقود على أساس العدالة ومراعاة مصلحة الطرفين، وتفرض الرسومات، أو الأجور والأثمان على أساس الثمن العادل الذي يتمثل في ثمن المثل أو أجر المثل، ولا يجوز للمؤسسة أن تزيد أكثر من سعر السوق، بل الأحوط والأفضل والأورع أن لا تضع الرسومات في مثل هذه الحالات إلاّ في حدود ثمن المثل، أو أجر المثل فقط.

ب ـ أما العقود التمويلية والاستثمارية في المؤسسات المالية الاسلامية (أو حتى غيرها) فلا تدخل في عقود الاذعان لما يأتي:

1. أن هذه الأشياء لا تعتبر مثل الماء والكهرباء، فيكون القياس قياسًا مع الفارق.

2. ان الطرف الآخر له الحق في القبول أو الرفض، وليس مجبرًا أو مضطرًا للتعامل مع المؤسسة المالية.

وفي حالة وجود أكثر من مؤسسة فإن مجال الاختيار أوسع، ويكون البون شاسعًا بين عقود المؤسسة التمويلية وعقود الاذعان.

3. ان الطرف الآخر يستطيع تغيير بعض البنود، ونسبة المرابحة، أو التمويل كما يحدث كثيرًا.

 ومع ذلك فنحن في الهيئات الشرعية نوصي دائمًا بالرفق بالمتعاملين، وتحقيق العدالة، وعدم استغلال الحاجة، أو الحماس الاسلامي لمزيد من الأرباح.

 وأخيرًا فقد صدر قرار جيد من مجمع الفقه الإسلامي (قرار قم 132(6/14) في دورته الرابعة عشرة بالدوحة 8-13 ذو القعدة 1423هـ الموافق 11-16 يناير2003م حيث نص على:

((1. عقود الإذعان مصطلح قانوني غربي حديث لاتفاقيات تحكمها الخصائص والشروط الآتية:

 أ‌- تعلُّق العقد بسلع أو منافع يحتاج إليها الناس كافة ولا غنى لهم عنها، كالماء والكهرباء والغاز والهاتف والبريد والنقل العام… الخ.

ب‌- احتكارُ -أي سيطرة- الموجب لتلك السلع أو المنافع أو المرافق احتكارًا قانونيًا أو فعليًا، أو على الأقل سيطرته عليها بشكل يجعل المنافسة فيها محدودة النطاق.

ج‌- انفرادُ الطرف الموجب بوضع تفاصيل العقد وشروطه، دون أن يكون للطرف الآخر حقُ في مناقشتها أو إلغاء شيء منها أو تعديله.

 د- صدور الإيجاب (العَرْض) موجهًا إلى الجمهور، موحدًا في تفاصيله وشروطه، وعلى نحو مستمر.

2. يُبرم عقد الإذعان بتلاقي وارتباط الإيجاب والقبول الحُكْمين (التقديريين) وهما كلُّ ما يدلُّ عرفًا على تراضي طرفيه وتوافق إرادتيهما على إنشائه، وفقًا للشروط والتفاصيل التي يعرضها الموجب، من غير اشتراط لفظ أو كتابة أو شكل محدّد.

3. نظرًا لاحتمال تحكّم الطرف المسيطر في الأسعار والشروط التي يُمليها في عقود الإذعان، وتعسُّفه الذي يُفضي إلى الإضرار بعموم الناس، فإنه يجب شرعًا خضوع جميع عقود الإذعان لرقابة الدولة ابتداءً (أي قبل طرحها للتعامل بها مع الناس) من أجل إقرار ما هو عادلُ منها، وتعديل أو إلغاء ما فيه ظلمُ بالطرف المذعن وفقًا لما تقضي به العدالةُ شرعًا.

4. تنقسم عقود الإذعان -في النظر الفقهي- إلى قسمين:

أحدهما: ما كان الثمنُ فيه عادلاً، ولم تتضمن شروطه ظلمًا بالطرف المذعن، فهو صحيح شرعًا، ملزم لطرفيه، وليس للدولة أو للقضاء حقُ التدخل في شأنه بأي إلغاء أو تعديل، لانتفاء الموجب الشرعي لذلك، إذ الطرف المسيطر للسلعة أو المنفعة باذلُ لها، غير ممتنع عن بيعها لطالبها بالثمن الواجب عليه شرعًا، وهو عوضُ المثل (أو مع غبن يسير، باعتباره معفوًا عنه شرعًا، لعسر التحرّز عنه في عقود المعاوضات المالية، وتعارف الناس على التسامح فيه) ولأن مبايعة المضطر ببدل عادل صحيحةُ باتفاق أهل العلم.

والثاني: ما انطـوى على ظلم بالطرف المذعن، لأن الثمن فيه غير عادل (أي فيه غبن فاحش) أو تضمن شروطًا تعسفية ضارةً به. فهذا يجب تدخل الدولة في شأنه ابتداءً (قبل طرحه للتعامل به) وذلك بالتسعير الجبري العادل، الذي يدفع الظلم والضرر عن الناس المضطرين إلى تلك السلعة أو المنفعة، بتخفيض السعر المتغالي فيه إلى ثمن المثل، أو بإلغاء أو تعديل الشروط الجائرة بما يحقق العدل بين طرفيه، استنادًا إلى:

أ‌- أنه يجب على الدولة (ولي الأمر) شرعًا دفع ضرر احتكار فرد أو شركة سلعةً أو منفعة ضرورية لعامة الناس، عند امتناعه عن بيعها لهم بالثمن العادل (عِوضَ المثل) بالتسعير الجبري العادل، الذي يكفل رعاية الحقين: حق الناس بدفع الضرر عنهم الناشئ عن تعدي المحتكر في الأسعار أو الشروط، وحقّ المحتكر بإعطائه البدل العادل.

ب‌- أن في هذا التسعير تقديمًا للمصلحة العامة – وهي مصلحة الناس المضطرين إلى السلع أو المنافع في أن يشتروها بالثمن العادل – على المصلحة الخاصة، وهي مصلحة المحتكر الظالم بامتناعه عن بيعها لهم إلا بربح فاحش أو شروط جائرة، إذ من الثابت المقرر في القواعد الفقهية أن” المصلحة العامة مقدمةُ على المصلحة الخاصة” وأنه” يُتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام “.

5. يفرّق في الوكالات الحصرية للاستيراد بين ثلاث حالات:

الأولى: أن لا يكون هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ عامةٌ أو خاصةٌ بفئة من الناس إلى المُنْتَج الذي تتعلق به الوكالة الحصرية، نظرًا لكونه من السلع أو المنافع الترفيهية، التي يمكن الاستغناء عنها، أو كان هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ غير متعيِّنة إليه، لوجود مثيل أو بديل له متوفر في السوق بسعر عادل، فإن من حق الوكيل المستورد أن يبيعه بالثمن الذي يتراضى مع المشتري عليه، وليس للدولة أو للقضاء حقُّ التدخل بالتسعير عليه فيه، إذ الأصل في صحة العقود التراضي، وموجبها ما أوجبه العاقدان على أنفسهما به، ولأن اختصاص صاحب الوكالة بالمُنْتَج واحتكاره له (بالمعنى اللغوي للاحتكار) جائزُ شرعًا، حيث إن من حقه بيع ما يملك بالثمن الذي يرضى به، إذا لم يتضمن ظلمًا أو إضرارًا بعامة الناس، ولا يجوز التسعير عليه فيه.

والثانية: أن يكون هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ عامةٌ أو خاصةٌ متعيِّنة بمتعلِّق الوكالة الحصرية، وأن يكون الوكيل باذلاً له بثمن عادل، لا يتضمن غبنًا فاحشًا أو تحكمًا ظالمًا، وعندئذ فلا يجوز تدخلُ الدولة بالتسعير عليه، لأن اختصاصه واحتكاره المُنْتَج تصرف مشروع في ملكه، لا ظلم فيه لأحد، ولا إضرار بالناس المحتاجين إليه، فلا يُتعرض له فيه.

والثالثة: أن يكون هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ عامةٌ أو خاصةٌ متعيِّنة بمتعلّق الوكالة الحصرية، والوكيلُ ممتنعُ عن بيعه إلا بغبن فاحش أو بشروط جائرة. ففي هذه الحال يجب على الدولة أن تتدخل لرفع الظلم عن المحتاجين إليه بطريق التسعير الجبري على الوكيل.

والله أعلم)).

 هذا هو رأينا في الموضوع ورأي مجمع الفقه الإسلامي الدولي، والله الموفق وهو أعلم بالصواب.


([1]) يراجع السنهوري: نظرية العقد، موضوع عقود الاذعان، ومعجم لغة الفقهاء، ط. دار النفائس 1996 ص32، والموسوعة العربية، وموقع ويكيبيديا مصطلح (عقود الاذعان)

([2]) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، مادة ( ذعن)

([3]) القاموس المحيط (2/77) والمصباح المنير (2/6)

([4]) مبدأ الرضا في العقود (1/423-424) ومصادره المعتمدة

آخر الفتاوى