السؤال: ما فلسفة الإسلام وموقفه تجاه المال؟ بمعنى هل الإنسان إذا سعى لكسب المال بقوة ودأب هل يكون آثما أم محسنًا؟
الجواب:
لا يمكن لنا إدراك موقف الإسلام من المال إلاّ إذا استعرضنا معًا موارد المال في القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث يفهم من بعضها ذم المال، ومن بعضها الآخر أنه خير وممدوح، ولذلك نذكرها ثم نعقبها بآراء العلماء، ثم نطبق عليه المنهج الصحيح القائم على النظرة الشمولية التي تجمع النصوص كلها ثم تربط بعضها مع البعض، ثم تأخذ منها الجامع المشترك لتحمل كل آية على الحالة المرادة منها.
فقد تكرر لفظ المال ومشتقاته في القرآن الكريم كثيرًا، فنرى أن القرآن الكريم وصفه في بعض الآيات بأوصاف الذم، في حين وصفها في بعضها الآخر بأوصاف المدح، وبما أنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين آيات الله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)[1].
إذن فالصواب لس في المنهج الاحادي من حيث النظرة والتفسير، وإنما في المنهج الجامع بين هذه الآيات، وحمل كل مجموعة على محملها، والآيات التي تتحدث عن ذم المال محمولة على الأموال الباطلة المحرمة، أو التي يتعلق بها القلب فتشغله عن طاعة الله، أو تدفعه إلى معصية الله وأما الآيات التي تثني على المال فهي محمولة على المال الصالح، والمال الذي يتحقق به تعمير الأرض وخدمة المجتمع، والجهاد في سبيل الله.
فلنطبق هذا المنهج على الآيات الواردة في الأموال:
أولاً ـ مجال المدح:
أ) عشرات الآيات التي تحدثت عن الجهاد بالمال والنفس حيث قدمت معظمها الجهاد بالأموال على الأنفس، منها على سبيل المثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[2] فالجهاد بالمال هو من أعظم أنواع الجهاد الذي ينقذ الأمة من ذل الكفر، والفقر والجهل والمرض، ومنها قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[3].
ب) المال هو ثمن الجنة فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[4].
ج) المال يكون قرضًا حسنًا خيرًا للمرأة فقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)[5].
د) المال قيام المجتمع، أن المجتمع لا ينهض ولا يتقدم ولا يعمر الكون إلاّ من خلال المال ـ بعد الايمان ـ فقال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)[6].
هـ ـ المال زينة الحياة الدنيا قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً)[7] قال الماوردي: (لأن في المال جمالاً ونفعًا وفي تبيين قوة ودفعًا)[8].
وـ حبّ المال من الفطرة التي فطر الناس عليها، ولذلك نزلت التشريعات السماوية لتنظيمها فقال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[9].
زـ أن إنفاق المال يؤدي إلى تطهير النفس والتزكية فقال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتزكيهم بها)[10]وقوله تعالى: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)[11]
ح) سبب للقوامة فقال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[12] فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالمهر والنفقة[13].
فالأموال في هذه الآيات هي الأموال الحلال التي تنفق في سبيل الله، ولنهضة الأمة وتعمير الكون، وللتواصل، وخدمة الناس.
ثانيًا ـ في مجال الذمّ: وردت آيات كثيرة تدل في ظاهرها على أن المال مذموم كالآتي:
أ) المال عذاب لصاحبه، قال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)[14] حيث يدل على أن المال عذاب لصاحبه، ولكن المقصود به المال الذي يكون للكافر أو المنافق.
ب) المال فتنة فقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)[15]قال الرازي: (لأنها تشغل القلب بالدنيا وتصير حجابًا عن خدمة المولى)[16].
ج) أن المال لا يفيد صاحبه عند الله تعالى فقال تعالى: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)[17] وقال تعالى: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)[18]فالمقصود به أموال الكفرة، أما أموال المسلمين التي انفقت في سبيل الله فهي تنفع أصحابها، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم فقال تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[19] حيث يدل بوضوح على أن المال لا ينفع صاحبه إلاّ مع الاخلاص والنية وسلامة القلب.
د) المال سبب للخسران، فقال تعالى: (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا)[20] حيث يدل على أن المال سبب للخسران، ولكن الآية واضحة في أن ذلك خاص بالعاصي الكافر.
هـ) إن المال يؤدي إلى الطغيان والضلال والترف فقال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[21] فهذا واضح أيضًا في ان المقصود هو الإنسان الكافر الطاغي، وقال تعالى: (إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)[22] في حق فرعون، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)[23].
و) صرفه في الصدّ عن سبيل الله فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[24] فالآية واضحة في أن المال سلاح ذو حدين فإذا كان بأيدي الأعداء فينفقونه في الصدّ عن سبيل الله.
في السنة المشرفة:
ز) وهكذا نجد مثل هذين النوعين من المدح والذم في الأحاديث النبوية الشريفة، منها في الذم[25] على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)[26].
ومنها في المدح على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)[27] وقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشقّ تمرة)[28] حيث يدل على أن نار جهنم يمكن أن يحفظ المسلم نفسه منها بسبب المال، بل جعله الإسلام سببًا لخير الإسلام فحينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الإسلام؟ قال: (تطعم الطعام وتقرأ السلام…….)[29].
فهذه الأحاديث لو عمقنا النظر فيها لوجدنا أن ذم المال ينصرف نحو المال الحرام، أو المكنوز، أو المال الذي يكون فتنة لصاحبه، أما المال الحلال الذي يصرف في سبيل الله وفي وجوه الخير فإنه وقاية من النار، وخير وبركة، ووسيلة لدخول الجنة بل قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذهب أهل الدثور بالأجور….)[30] ولذلك ورد في الحديث الثابت: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)[31].
([9]) سورة آل عمران / الآية 14
([13]) تفسير ابن الجوزي (2/74)
([17]) سورة آل عمران / الآية10
([19]) سورة الشعراء / الآية 88 – 89
([21]) سورة العلق / الآية 6 – 7
([25]) يراجع: رياض الصالحين بتحقيق شعيب الأرناؤوط ص 171-194
([26]) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح الحديث 2337، ورواه أحمد (4/160) وابن حبان الحديث 2470 والحاكم في المستدرك (4/318) وصححه ووافقه الذهبي
([27])رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (1/152) ومسلم الحديث 816
([28])رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (3/225) ومسلم الحديث 1066
([29]) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (1/52 – 53) ومسلم الحديث 39
([30]) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (2/270،272، 11/113) ومسلم الحديث 595