فقد وردني طلب استفتاء حول مسألة (المسابقات) وهذا نص السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. نحن مجموعة من الشباب الرياضيين، وتدور بيننا المسابقات الرياضية حيث يقوم كل واحد منا بدفع مبلغ مالي للمنافسة في الرياضة التي نقوم بها والفائزون الثلاثة يأخذون المبالغ المجموعة في صورة كؤوس أو مبلغ مالي، وعلمنا أن في هذه الصورة شبهة شرعية، فهل من صورة أخرى نقوم بها بحيث نبتعد عن شبهة القمار. ملاحظة: سألنا أحد الشرعيين فذكر لنا حلاً في صورة دخول طرف ثالث أو أن يقوم أحدنا بدفع مبلغ الجائزة وهذا الأمران لا يتسنى لنا.. ويسأل أحدنا لماذا لا نقيس الرياضات النافعة والتي تبعد الشباب عن مواطن السوء من باب السبق في الحافر والرمي والسباحة.. وبارك الله فيكم وفي علمكم.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
تعريف المسابقات:
المسابقات لغة: هو جمع مسابقة، وهي من سابق إلى الشيء مُسابقة وسباقًا، للمشاركة في السبق بمعنى التقدّم والمسارعة، والمبادرة.
وفي عرف الفقهاء يقصد بها: أن يسابق شخص شخصًا آخر في الخيل، والإبل، أو في الرياضات، أو نحوها. يراجع في اللغة: القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مصطلح (سبق)، ويراجع في الفقه: بدائع الصنائع (6/206) والشرح الصغير للدردير (2/323) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/210) وتكملة المجموع للمطيعي (11/22) والمغني (8/615)، ويراجع مصطلح (سباق) في الموسوعة الفقهية الكويتية (24/123).
فهي تقوم على المنافسة بين شخصين أو أكثر في تحقيق أمر بعوض أو بغيره.
مشروعيتها:
وهي مشروعة بالسنة النبوية المشرفة، وبالإجماع. يراجع للأحاديث الواردة فيها: فتح الباري شرح صحيح البخاري (6/71) ط. السلفية بالقاهرة، ومسلم (3/1491) ط. الحلبي، والمصادر الفقيهة السابقة.
وهي داخلة في إعداد الأمة والسياسة الشرعية، والمصالح المرسلة، قال الزركشي: (وينبغي أن تكون المسابقة والمفاضلة فرض كفاية، لأنهما من وسائل الجهاد، وما لا يتوصل إلى الواجب إلاّ به فهو واجب، والأمر بالمسابقة يقتضيه…). يراجع: المصادر الفقهية السابقة، ومغني المحتاج (4/311).
أقسامها، وأنواعها:
والمسابقة من حيث الحكم الشرعي قسمان:
(1) مشروع، وهو أيضًا قسمان:
أ- قسم ورد بمشروعيته، أو كونه مطلوبًا نصوص عامة أو خاصة من الكتاب والسنة، كالسباق بالخيل والإبل، والرماية ونحوها مما يساعد على الدفاع عن الأمة، والجهاد، لعموم قوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [سورة الأنفال: 60]، وللأحاديث الواردة في السباق في الخيل والإبل والرماية والمصارعة والجري.
ب- وقسم يقاس على ما سبق بجامع الإعداد، وبالمصلحة الراجحة مثل السباحة، ورفع الأثقال ونحوهما.
(2) غير مشروع مثل المسابقات على أيّ أمر محرّم في هذه الشريعة، فما دام العمل نفسه غير مشروع فلا يجوز التعاون عليه لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [سورة المائدة: 2]
ثم المسابقة المشروعة (من حيث وجود عوض، أو عدمه) نوعان:
النوع الأول: مسابقة بدون عوض فهذا جائز في كل أمر مشروع في ذاته وأهدافه، يمكن المسابقة فيه، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان في سفر مع عائشة فسابقته على رجلها فسبقته، فلما حملت اللحم سابقته فسبقها فقال صلى الله عليه وسلم (هذه بتلك) رواه أبو داود بسند صحيح 2578 وابن حبان في صحيحه 4691.
النوع الثاني: مسابقة بعوض مادي، أو معنوي فهذا فيه تفصيل، وخلاف بين الفقهاء، ولكن أذكر هنا ما هو الراجح الذي يدعمه الدليل دون الخوض في التفاصيل الفقهية، في ضوء ما يأتي:
الرأي الراجح:
فالراجح هو أن الأصل في المسابقة في المباحات الإباحة، ولذلك تجوز المسابقة في كل عمل مشروع نافع سواء ورد فيه نص أو لا، بل تشمل جميع أنواع الرياضة المشروعة، ونحوها من المسابقات الثقافية والعلمية ونحوهما، بالشروط الآتية:
- أن تكون أهداف المسابقة ووسائلها ومجالاتها مشروعة.
- أن لا يترتب عليها ترك واجب، أو فعل محرّم.
- وأما العوض، ففيه أربع صور:
الصورة الأولى: أن يكون العوض من أحد المتسابقين للآخر فهذا جائز، وذلك لما ورد في الحديث الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صارع ركانة على شاة فصرعه، فأخذها، ثم عاد مرارًا، فأسلم، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم غنمه) رواه الترمذي (4/247) ط. الحلبي بالقاهرة، وأورد له ابن حجر في التلخيص (4/162) ط. الفتية، من الشواهد والمتابعات ما يقويه، وذكر ابن الملقن في المستدرك على المجموع (1/221): (إسناده جيد)، قال الألباني في إرواء الغليل (1503): (حسن)، وعليه جمهور الفقهاء من حيث المبدأ، وذلك كأن يقول المتسابق للآخر: إنْ سبقتني فلك عشرة آلاف دينار، وإلاّ فلا شيء لك عليّ. يراجع: المصادر الفقهية السابقة، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة 14 ع14ج1ص47-302.
الصورة الثانية: أن يكون العوض من طرف ثالث يسمى في الفقه الإسلامي (المحلل) سواء كان فردًا أم شركة أم مؤسسة أم حكومة، فهذا جائز أيضًا لعدم وجود مخالفة شرعية فيها.
الصورة الثالثة: أن يكون العوض من المتسابقين للفائز، بأن يقول أحدهما (أو أحدهم): إن سبقتني فلك كذا، وإن سبقتك فلي كذا، فهذا فيه قولان:
القول الأول: عدم الجواز مطلقًا، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، لأنه داخل في الميسر والقمار المحرّم، ولأدلة ذكروها في كتبهم بالتفصيل. يراجع: المصادر الفقهية السابقة، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة 14 ع14ج1ص47-302.
القول الثاني: الجواز، وهذا رأي ابن تيمية وابن القيم بناء على أن الأصل في العقود الإباحة إلاّ ما استثناه الدليل، ولا دليل صريحًا أو صحيحًا على منع ذلك، كما أن الأحاديث الدالة على جواز السبق لم تقيده مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلاّ في نصل، أو خف، أو حافر) رواه الترمذي بسند صحيح الحديث 1700، وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (4/160): (صحيح) وكذلك قال ابن القطان في الوهم والإلهام (5/382) وقال الألباني في صحيح الترمذي 1700: (حديث صحيح)، ورواه النسائي أيضًا بسند صحيح الحديث 3588حيث أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كان المحلل شرطًا لذكره، لأنه في معرض البيان، والحاجة ملحة في ذكره لو كان مشروطًا، كما أن هذه الصورة لا تدخل في القمار؛ لأنه أكل لأموال الناس بالباطل، وهنا لا يتحقق هذا لأن كلا الطرفين يبذل جهده، وان الذي يسبق بأخذ المال في مقابل عمله وجعله، فهو أقرب ما يكون إلى الجعالة،
والذي أرى رجحانه هو تطوير الصورة لتخرج إلى صورة مؤسسة، وذلك بأن يتفق مجموعة من الرياضيين أو المتسابقين في أي نوع من أنواع الرياضة المشروعة، أو نحوهم على إنشــــاء صندوق خاص للرياضة (أو نحوها) فيضع كل واحد مساهمته في هذا الصندوق تبرعًا، ثم تصرف منه إلى المتسابقين الفائزين منه، فهذا في نظــري جائز، لأن المقصد منه عام، وليس خاصــــًا بالســــباق، بالإضــافة إلى ما ذكرنـــاه دليلاً لرأي ابن تيمية، وابن القيم، كما أن إنشاء الصندوق يعطي له اعتبارًا خاصًا به يقربه من عملية التعاون، والتناهد الذي كان موجودًا بين الصحابة الكرام.
والنهد – بكسر النون – وفتحها – أن يتفق المسافرون على أن يدفع كل واحد منهم بمقدار ما دفعه صاحبه لأجل نفقات السفر، فيضعون ما جمعوه عند شخص، فيأكلون منه ويشربون. يراجع: فتح الباري شرح صحيح البخاري (5/128) حيث ترجم البخاري باب الشركة في الطعام والنهد…
والتناهد وإن كان يختلف عما ذكر آنفًا بعض الشيء، لكنه يمكن الاستئناس به، وقد قدمته لتكييف التأمين التكافلي لأول مرة إلى الندوة الثالثة لبيت التمويل الكويتي في 6-8 /11/1413هـ.يراجع: كتابنا: التأمين التكافلي الإسلامي ط. دار البشائر الإسلامية ط. السادسة 2011م (1/276 وما بعدها).
الصورة الرابعة: ان يشارك مع المتسابقين اللذين دفعا أيضًا المال شخص آخر (محلل) أي أن يتفق المتسابقان على أن يدخل بينهما محلل، وفي هذه الصورة ثلاثة آراء:
الرأي الأول: القول بالمنع، وهو الرواية المشهورة عن مالك، وذلك مبني على أن معنى القمار لم يزل عنه.
الرأي الثاني: الجواز، وهو رأي جمهور الفقهاء المعتمد على حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل، وجعل بينهما سبقًا، وجعل بينهما محللاً، وقال: (لا سبق إلاّ في خف، أو حافر، أو نصل) رواه ابن حبان في صحيحه الحديث رقم 4689 وقال ابن الملقن – كما في تحفة المحتاج (2/554) – صحيح، أو حسن، وقال ابن دقيق العبد في الإلمام (2/557): صحيح على طريقة بعض أهل الحديث، وجاء في الإرواء (ذكر المحلل فيه منكر) (5/334). ويراجع: الموطأ، كتاب الجهاد (2/468) ونقل ذلك أيضًا عن سعيد بن المسيب.
ومن جانب آخر فإن وجود المحلل يخرج العقد عن شبهة القمار.
الرأي الثالث: أنها تصح فقط في سباق الخيل دون غيره، وهو مذهب الظاهرية. يراجع: المحلى (7/579)
والراجح هو قول الجمهور القائل بالجواز.
هذا وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي (قرار رقم 127 (1/14) بشأن بطاقات المسابقات، نختم به فتوانا لأهميته، هذا نصه: (إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته الرابعة عشرة بالدوحة (دولة قطر) 8 – 13 ذو القعدة 1423هـ، الموافق 11 – 16 كانون الثاني (يناير) 2003م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع بطاقات المسابقات، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرر ما يلي:
أولاً: تعريف المسابقة:
المسابقة هي المعاملة التي تقوم على المنافسة بين شخصين فأكثر في تحقيق أمر أو القيام به بعوض (جائزة)، أو بغير عوض (جائزة).
ثانيًا: مشروعية المسابقة:
المسابقة بلا عوض (جائزة) مشروعةُ في كلّ أمرٍ لم يرد في تحريمه نصُّ ولم يترتب عليه تركُ واجبٍ أو فعلُ محرّم.
المسابقة بعوض جائزة إذا توافرت فيها الضوابط الآتية:
أ. أن تكون أهداف المسابقة ووسائلها ومجالاتها مشروعة.
ب. أن لا يكون العوض (الجائزة) فيها من جميع المتسابقين.
ج. أن تحقّق المسابقة مقصدًا من المقاصد المعتبرة شرعًا.
د. ألا يترتب عليها تركُ واجبٍ أو فعل محرّم.
ثالثًا: بطاقات (كوبونات) المسابقات التي تدخل قيمتها أو جزءٌ منها في مجموع الجوائز لا تجوز شرعًا لأنها ضربٌ من ضروب الميسر.
رابعًا: المراهنة بين طرفين فأكثر على نتيجة فعلٍ لغيرهم في أمورٍ مادية أو معنوية حرام؛ لعموم الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الميسر.
خامسًا: دفع مبلغ على المكالمات الهاتفية للدخول في المسابقات غير جائز شرعًا إذا كان ذلك المبلغ أو جزء منه يدخل في قيمة الجوائز منعًا لأكل أموال الناس بالباطل.
سادسًا: لا مانع من استفادة مقدمي الجوائز من ترويج سلعهم فقط – دون الاستفادة المالية – عن طريق المسابقات المشروعة شريطة أن لا تكون قيمة الجوائز أو جزء منها من المتسابقين، وأن لا يكون في الترويج غشٌّ أو خداعٌ أو خيانةٌ للمستهلكين.
سابعًا: تصاعد مقدار الجائزة وانخفاضها بالخسارة اللاحقة للفوز غير جائزٍ شرعًا.
ثامنًا: بطاقات الفنادق وشركات الطيران والمؤسسات التي تمنح نقاطًا تجلبُ منافع مباحة، جائزة إذا كانت مجّانية (بغير عوض)، وأما إذا كانت بعوضٍ فإنها غيرُ جائزة لما فيها من الغرر.
توصيات:
يوصي المجمع عمومَ المسلمين تحرّي الحلال في معاملاتهم ونشاطاتهم الفكرية والترويحية والابتعاد عن الإسراف والتبذير. والله أعلم)
هذا والله أعلم بالصواب
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث