تعدد جهات الفتوى وأثره على مستقبل العمل المصرفي الإسلامي

السؤال الأول: ما هي أهم الجهات التي تتولى الافتاء للمصرفية الاسلامية في العصر الحديث (مجامع الفقه الاسلامي، المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، الهيئات الشرعية……، …….)؟

الجواب:

الفتوى: هي بيان الحكم الشرعي لقضية من القضايا عند السؤال عنها [1].

وللمفتي شروط:

  • بعضها يعود إلى: جانب التقوى والعدالة
  • وبعضها يعود إلى: جانب الكفاءة والعلم
  • وبعضها يعود إلى: القدرة على التنزيل، وفقه الواقع، والأعراف، والأحوال[2] .

 والفتوى ـ من حيث الأصل ـ ليست ملزمة للمستفتي، ولكن إذا التزم المستفتي فيلتزم بها، ومن هذا الباب فتاوى، أو قرارات الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية ملزمة للإدارة، بحكم النظام الأساس الذي ينص على هذه الإلزامية، وكذلك الأمر إذا نص عليها العقد المنظم لعلاقة المؤسسة بالهيئة الشرعية.

وهذا يعني أن المؤسسين قد أوكلوا مهمة الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها إلى الهيئة الشرعية، وألزموا الإدارة بذلك.

وذلك لأن التزام الإدارة بأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها فريضة شرعية لا يجوز التنازل عنها سواء نص النظام على ذلك أم لا، ولكن هذا الالتزام إذا لم يخصص بالهيئة الشرعية فيبقى للإدارة الحق في أن تأخذ الرأي الشرعي في حالة الاختلاف من أي عالم معتبر، أو رأي فقهي موثق، ولكن بحكم النظام أو العقد يصبح الالتزام بقرارت (فتاوى) الهيئة الشرعية للمؤسسة واجبًا، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[3] ولقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)[4]، ولأحاديث كثيرة في هذا المجال توجب الالتزام بالعقود والعهود والوعود وتجعل مخالفتها خصلة من خصال النفاق.

وهذا ما نص عليه البند (2) من معيار الضبط لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، حيث جاء فيه: (هيئة الرقابة الشرعية، هي: جهاز مستقل من الفقهاء المتخصصين في فقه المعاملات، ويجوز أن يكون أحد الأعضاء من غير الفقهاء على أن يكون من المتخصصين في مجال المؤسسات المالية الإسلامية وله إلمام بفقه المعاملات، ويعهد لهيئة الرقابة الشرعية توجيه نشاطات المؤسسة ومراقبتها والإشراف عليها للتأكد من التزامها بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، وقراراتها ملزمة للمؤسسة).

وجاء في المعيار الشرعي رقم (29) في بيان ضوابط الفتوى ما يأتي:

3/2   تتعين الفتوى على الهيئة للمؤسسة المالية للارتباط بينها وبين تلك المؤسسة.

3/3   حكم الاستفتاء الوجوب على المؤسسة لمعرفة حكم الشرع في حادثة وقعت، أو يتوقع حدوثها، كما يجب عليها الاستفتاء عن الحكم الشرعي لأي عملية يراد الدخول فيها.

3/4   مع أن الأصل أن للمستفتي أن يختار ـ بحسب طاقته ـ الأعلم أو الأتقى من المفتين، ولو في كل مسألة على حدة، ولكن المؤسسات ـ بحسب نظمها ولوائحها ـ مقيدة باستفتاء هيئتها[5].

ونص البند 6 على أنه:

6/1   يلزم المؤسسة العمل بالفتاوى الصادرة عن الهيئة الشرعية بمجرد إصدارها ولا يتوقف ذلك على قناعة الإدارة، وهذا إذا كان مقتضى الفتوى وجوب الفعل أو الترك أما إن كان مقتضاها الجواز فيحق للمؤسسة عدم العمل إذا رأت المصلحة العملية في ذلك وفي حال مخالفة إدارة المؤسسة لقرار الهيئة يرفع الأمر للجمعية العمومية[6].

وبالتالي فإن الجهة التي تتولى الافتاء للمصرفية الاسلامية هي هيئة الفتوى والرقابة الشرعية للمؤسسة نفسها، وليست مجامع الفقه، أو المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة….، ولكن الهيئة لا ينبغي لها أن تخالف قرارات المجامع الفقهية، أو المعايير الشرعية التي صدرت من هيئة المحاسبة والمراجعة، إلاّ في حالات خاصة يكون للهيئة أدلتها المعتبرة.

إذن فالأصل هو الالتزام بهذه القرارات المجمعية، والمعايير الشرعية، لأنها تأتي بعد دراسات ومناقشات من عدد كبير من فقهاء الأمة، ومن الاقتصاديين، فرأي الجماعة أفضل من رأي الفرد.

أما أنه يجوز استثناء مخالفة هذه القرارات والمعايير، فلأن بعض هذه القرارات والمعايير لا تصدر بالإجماع، وإنما بالغالبية، وحتى ولو صدرت بالإجماع، فإن الحاضرين لا يمثلون جميع علماء الأمة، ولذلك لا تعتبر هذه القرارات إجماعًا، عند جميع الفقهاء المعتبرين.

ولنفس السبب فإن هذه القرارات قابلة للمراجعة والتعديل، وقد حدث فعلاً إعادة النظر في بعض القرارات، وصدرت قرارات أخرى قد تختلف عن سابقتها.

ومهما يكن من أمر فإن تنزيل قرارات المجامع أو المعايير الشرعية على الوقائع التي تحدث في المؤسسات المالية من مسؤوليات الهيئة الشرعية للمؤسسة، ومن واجباتها، ولذلك يجب على المؤسسة أن تلتزم بقرارات هيئتها الشرعية، وهذا ما نص عليه البند 6/3 من المعايير: (ليس للمؤسسة العمل بما صدر من غير هيئتها إلاّ بموافقة هيئتها)[7]، وجاء في البند 6/4 من المعايير: (ليس للمؤسسة مطالبة الهيئة بالإفتاء طبقًا لمذهب معين ولو كان المذهب الرسمي في بلد مقر المؤسسة، أو المذهب الذي التزمت به جهة الفتوى الرسمية، ومع هذا ينبغي مراعاة ما إذا كان القضاء أو القانون مقيدًا بمذهب معين، وكان الموضوع مما يحتمل في المستقبل الرجوع فيه إلى القضاء) [8].

طريقة الفتوى للمؤسسات المالية الإسلامية:

إن طريقة الفتوى للهيئات الشرعية يجب أن تعتمد أولاً على كتاب الله، والسنة الصحيحة الثابتة والاجماع، ثم القياس والمصالح المرسلة، وبقية الأدلة التبعية كما أن عليها أن تستفيد من أقوال الصحابة والتابعين، ومن آراء الفقهاء المجتهدين، ولكن لا يجوز الافتاء على الرأي المجرد عن الدليل المعتبر شرعًا وقد شرحت المادة (7) من معيار ضوابط الفتوى هذه المسألة، نذكرها لأهميتها، وهي:

7/1   أول ما تستند إليه الفتوى ما جاء في كتاب الله تعالى صريح الدلالة، وما جاء في السنة الثابتة الصريحة الدلالة، وما وقع عليه الاجماع، أو ما ثبت بالقياس، ثم ما يرجحه المفتي من الأدلة المختلف فيها، مثل الاستحسان والمصلحة المرسلة…. الخ.

7/2   لا يجوز شرعًا الفتوى بمقتضى الرأي المجرد عن الاستدلال بما سبق بيانه في البند 7/1 أو بما يخالف النصوص العامة الصحيحة القطعية الدلالة، أو بما يعارض الإجماع الثابت أو القواعد الكلية المستندة إلى النصوص.

7/3   لا يسوغ التحرج من الفتوى في الأمور المستجدة بسبب عدم توافر النصوص فيها أو عدم وجود كلام عنها للفقهاء السابقين، ويتم النظر فيها بمراعاة قواعد الاستنباط المقررة في أصول الفقه.

7/4   للهيئة بالتنسيق مع المؤسسة إحالة الاستفتاء عند الحاجة إلى هيئة تتوافر فيها صفات طمأنينة أعلى مثل كثرة المشاركين في عضويتها أو انضمام خبرات أخرى إليهم مثل المجامع الفقهية أو المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية، أو الهيئات الشرعية العليا.

7/5   من وسائل تسهيل الوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح للمسائل ما يأتي:

7/5/1 المعرفة الدقيقة بالواقعة المستفتى فيها مع استخلاص حقيقتها إذا لم تتضح في الاستفتاء وذلك من خلال سؤال المستفتي أو التشاور مع الهيئات الأخرى أو الرجوع للخبراء وجهات الاختصاص مع مراعاة الأعراف والعادات حسب المكان والزمان.

7/5/2 تتبع الحكم الشرعي المحرر في المذاهب وبذل الجهد فيما إذا كان الدليل في القضية مما تعارضت فيها الأدلة أو لم يرد فيها نص أو قول للفقهاء السابقين.

7/5/3 الاستفادة من الاجتهادات الجماعية مثل: قرارات المجامع، وفتاوى الهيئات الأخرى، والندوات والمؤتمرات الفقهية.

7/6   يجب على الهيئة إذا ورد إليها استفتاء من المؤسسة أن تجيب عليه ببيان الحكم الشرعي إلاّ إذا خيف استغلال الفتوى لما ليس مشروعًا فإن للهيئة الامتناع عن الفتوى وحفظ الاستفتاء، أو الافتاء مع وضع قيود على نشر الفتوى.

7/7   العمل على نشر فتاوى الهيئة وتبادلها مع الهيئات الأخرى والجهات ذات الصلة [9].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السؤال الثاني: هل هناك اتساق بين فتاوى تلك الهيئات على الجملة؟

الجواب:

 مع الأسف الشديد لا يوجد اتساق بين الفتاوى الصادرة من الهيئات الشرعية بالشكل المطلوب، كما أن ذلك يختلف من هيئة إلى أخرى، فهناك هيئات تلتزم بقرارات المجامع الفقهية، والمعايير الشرعية، وتحاول الاستفادة من بقية الهيئات، وهناك هيئات أخرى لا تلتزم بكل ما سبق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السؤال الثالث: ما هي آثار تضارب الفتاوى على مستقبل العمل المصرفي الاسلامي على المستويين المحلي والدولي؟

الجواب:

 وقبل أن أخوض في الجواب على هذا السؤال أود أن أبين أن الاختلافات المعقولة في دائرة الاجتهادات القائمة على النصوص الشرعية، والمقاصد المعتبرة لا تعتبر تضاربًا، ولا مضرة بالعمل المصرفي الاسلامي، بل تعتبر إثراءً له، وتطويرًا للمنتجات المالية الاسلامية، وإنما الذي يضر الاختلافات التي لا تـنضبط بالضوابط المعتبرة، وإنما تعتمد على الحيل والمخارج والرخص الفقهية، والمنظومة العقدية التي لا تحقق مقاصد الاقتصاد الاسلامي، بل تؤدي في جوهرها، وحقيقتها ومآلاتها إلى أحد المحظورات الشرعية، وتكون بمثابة قول ابن عباس رضي الله عنهما في بيع العينة: (بيع درهم بدرهمين بينهما حريرية).

وأما آثار هذه التضاربات فهي كثيرة وخطيرة يمكن أن نذكر أهمها في الجانب المحلي:

  1. إضعاف ثقة جماهير المسلمين بالمؤسسات المالية الإسلامية، وبالتالي فقدان أهم سبب للتعامل معها، وذلك لأن الدافع الحقيقي وراء معظم المتعاملين مع المؤسسات المالية الاسلامية هو الاسلام والخوف من الوقوع في الربا الذي سماه الله تعالى بالحرب (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (سورة البقرة / الآية 279) وفي الوقوع في بقية المحرمات التي يخاف المسلم أن يتقرب منها خوفًا من عقاب الله تعالى، وعدم قبول دعائه، وعبادته في الدنيا والآخرة، والخوف من عذاب القبر، والنار.
  2. النزول إلى هاوية الحيل، والتوجه نحو الفتاوى المرخصة تطبيقًا للقاعدة الاقتصادية المعروفة القاضية بأن العملات الرديئة تطرد العملات الجيدة، ثم تنتهي إلى الفساد والخراب.
  3. عدم تحقيق مقاصد الاقتصاد الاسلامي من التعمير، والتنمية الشاملة في مجالات الصناعة، والزراعة، والتجارة، وتضييق أهداف الاقتصاد الإسلامي في هذه المؤسسات للمساهمة في النهوض بالمجتمع في جميع المجالات والارتقاء به إلى مجتمع تمام الكفاية.

وأما على المستوى الدولي فكما يأتي:

  1. عدم احترام الاقتصاديين الدوليين لهذه الاختلافات، ولا سيما لهذه الرخص الفقهية القائمة على الحيل حتى إن أحدهم ذكر أن الحيل الموجودة في المؤسسات المالية الإسلامية لا يقبل بها مشروع القانون الوضعي لو علم بها، فكيف يقبل بها ربّ العالمين.

بل إنني حضرت مؤتمرات كثيرة حضرها الاقتصاديون الغربيون فتندروا من التورق المنظم، ومن أخذ المبالغ الشهرية أو السنوية على بطاقات الائتمان الإسلامية الخاصة بكشف الحساب، حتى قال أحدهم إن الربا أرحم، أنه لا يؤخذ إلاّ في حالات الاقتراض، أما بعض بطاقات الائتمان الإسلامية التي يؤخذ عليها كل شهر مطلقًا مبلغ 125 ريالاً شهريًا مثلاً فهذا أسوأ لأنه يشجع على الاستهلاك، كما أنه ظلم، وأنه زيادة على الدين، لأن البطاقة هي بطاقة دين.

  •  عدم اعتراف المحاكم الغربية بمثل هذه العقود التي تنظم على هذا الأساس، حتى ولو نصت على تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنها تقول: (إن شريعتكم مختلفة، فبأي رأي نحكم).
  • عدم تقديم قدوة صالحة في الاقتصاد حتى يحتذى بها في الغرب، ولا سيما في ظل هذه الأزمة العالمية، إذ أن البنوك الاسلامية بسبب هذه الفتاوى المضطربة، وبسبب هذه الرخص لا يبقى فرق جوهري في نظرهم بينها وبين المؤسسات المالية الغربية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السؤال الرابع: هل هناك أمثلة تطبيقية على موضوع تضارب الفتاوى:

الجواب:

نعم هناك أمثلة كثيرة، وخطيرة، منها:

أولاً ـ التورق المصرفي المنظم الذي سماه البعض: التورق المبارك، وحرمه البعض، واعتبره شرًا من الربا.

ثانيًا ـ الوكالة بالاستثمار بشرط أن لا يدخل الوكيل إلاّ في مرابحة بنسبة 7% مثلاً، ورتبوا على ذلك ضمان الوكيل لرأس المال، أو لرأس المال والربح الذي حدد بناء على أنه خالف الشرط وهكذا.

ثالثًا: المرابحة العكسية التي أفتى بجوازها بعض المفتين، وهي في حقيقتها تمس قلعة نظيفة من قلاع المصارف الإسلامية، وهي قلعة الودائع المصرفية التي كانت تقوم على أساس المضاربة الشرعية الصحيحة، فإذا بالمرابحة العكسية تهدم هذه القلعة أيضًا، أو تشوش صورتها، لأنها تقوم على أساس تضمين الوديعة خلال بضع ساعات، حيث يتم ذلك من خلال تورق منظم ليصبح المال المراد إيداعه دينًا في ذمة البنك بربحه، أو قل بقائدته المضمونة !!!!!!.

ولذلك حينما وافق بعض المفتين على جواز ذلك وأرسل إلى أحد المصارف المركزية، قال لإدارة المصرف المذكور: (إذا وافقتم على ذلك، فعليكم أن لا تقرضوا هذه المبالغ إلاّ من خلال قرض مضمون وبفائدة مضمونة).

رابعًا ـ الصكوك التي صدرت عن بعض الجهات التي تقوم على أساس الالتزام بشراء الصكوك على أساس القيمة الاسمية، ولا سيما في نطاق صكوك المشاركة، والمضاربة، والوكالة بالاستثمار، وفي هذا تضمين لرأس المال على المشارك، والوكيل، والمضارب، أو الصكوك التي صدرت على أماكن لا تباع قانونًا.

خامسًا ـ دفع نسبة من الفائض في التأمين التكافلي للشركة تحت اسم الحوافز مع أنها تأخذ نسبتها من الأقساط، ومن أرباح الاستثمار وحينئذ قد قضى على أهم فرق جوهري عملي بين التأمين الإسلامي القائم على التبرع، والتأمين التجاري القائم على المعاوضة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السؤال الخامس: ما هو أثر تلك الهيئات الشرعية التي أسست بغرض مراجعة فتاوى وقرارات الهيئات الشرعية؟ وهل تعتبر مثل تلك الهيئات إضافة حقيقة لضمان اتساق الفتاوى مع الأصول والقواعد الشرعية أم أنها ستكون مصدرًا جديدًا للاختلاف؟

الجواب:

 في نظري أن تأسيس هيئة شرعية تتكون من عدد من الأعضاء يراد منها التقييم والتصنيف خطوة جيدة ولكنها غير كافية، ولا تحقق كل الأغراض المنشودة، من الوصول إلى ضبط الفتاوى الصادرة….

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السؤال السادس: ما هي الضوابط والمعايير التي يجب أخذ بها عند إصدار الفتاوى؟

الجواب:

 هناك ضوابط وشروط للمفتي نفسه من حيث العلم والتقوى، والقدرة على الاجتهاد والاستنباط، والترجيح والتخريج، وفقه الواقع، والتنزيل، وفقه المقاصد، ولا سيما مقاصد الشريعة في المال والتعمير، والمعاملات المالية، وفقه المصالح المرسلة والمفاسد، والموازنة، فيما بينها، وفقه المآلات والذرائع، وأن يكون متصفًا بالفطانة، والتيقظ، والعلم بأحوال الناس وأعرافهم، والمعرفة التامة بالمنتجات المالية، والعقود والآليات المستعملة في المؤسسات المالية الإسلامية، والتنبه للحيل، والتزوير، وقلب الكلام، وتصوير الباطل بصورة الحق، ونحو ذلك[10].

ومن الشروط المهمة للمفتي أن لا يكون عضوًا في مجلس الإدارة، ولا تكون له مصلحة خاصة بالموضوع المفتى فيه.

 وأما الفتوى فلها ضوابط فصلناها في بحثنا الخاص بالفتوى المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة الأخيرة بعمان، ولخصها معيار ضوابط الفتوى في المادة (9) نذكرها ببنودها:

9/1   يجب أن يكون التعبير عن الحكم في الفتوى بألفاظ واضحة، بحيث لا تفهم على غير وجهها ممن لم يكن مختصًا، ولا تصرف إلى معنى باطل ممن كان سيء النية.

9/2   على الهيئة أن تنتهي في فتاواها إلى رأي تختاره إذا كان في المسألة أكثر من رأي، وإذا كانت المسألة مختلفًا فيها فعلى الهيئة الترجيح وبيان ما يقتضيه النظر العلمي.

9/3   ينبغي تفصيل الأقسام المختلفة للحكم إن كانت وجوه متعددة.

9/4   الأصل أن ذكر الدليل ليس شرطًا لصحة الفتوى، ولا يحق للمؤسسة عدم قبولها بدونه، وينبغي للهيئة الاشارة إلى مستند الحكم.

9/5   الاقتصار على ما يحقق الغرض ويفي بالمقصود دون الاطناب بالعبارات الانشائية أو الوعظية بما لا أثر له في الحكم بحيث يختفي المقصود ويشتت ذهن المستفتي إذا كان الموضوع يقتضي التطويل لتعلقه بمصلحة عامة أو للحاجة إلى إقناع الجهات الرقابة الاشرافية، فيحسن حينئذ إضافة ما يتطلبه المقام من الوعظ والتعليل، وبيان حكمة التشريع والتحذير من المفاسد.

9/6   لا مانع من الزيادة في الجواب عما ورد في الاستفتاء إذا اقتضى ذلك الاحتراز من الاشتباه أو أيضاح المقصود الملتبس بنظائره، أو إذا كانت حاجة المستفتي قد تستدعي في المستقبل تلك الاضافة[11].

 وأما آدابها فقد ذكرها الفقهاء بالتفصيل، وأوجزتها المادة 12 من معيار ضوابط الفتوى، وهي:

12/1 وجوب التريث والتثبت حتى يتضح الجواب، وعدم التجرؤ على الفتوى.

12/2 تجنب اختلاف الفتوى في الموضوع الواحد والحالة الواحدة تبعًا لمصدر الاستفتاء كائنًا من كان.

12/3 عدم الفتوى في حالة اشتغال القلب والفكر بحاجة تمنع من صحة الفكر واستقامة الحكم.

12/4 يجب كتمان أسرار المؤسسة والعاملين فيها مما تطلع عليه الهيئة، وكذلك آليات التطبيق التي يتم اطلاعهم عليها من المؤسسة مما يتجاوز بيان الحكم الشرعي على أصل المبدأ إلى الوسائل الفنية والاجراءات العملية للتطبيق[12].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السؤال السابع: كيف يمكن التنسيق بين جهات الفتوى المختلفة بما يضمن عدم تحقق الاختلاف؟

الجواب:

 وفي نظري أنه ما دامت المؤسسات المالية الإسلامية نفسها غير متناسقة ولا ينسق بعضها مع البعض حتى داخل البلد الواحد، فإن التنسيق بين الهيئات الشرعية غير موجود، ومن الصعب ايجاده من دون آلية عملية ملزمة، إما من قبل البنوك المركزية أو نحو ذلك، لذلك نرى أن الحل الناجع يكمن في تنفيذ الاقتراحين الآتيين وهما:

أولاً ـ السعي لإنشاء اتحاد عالمي للهيئات الشرعية تحت اشراف ورعاية المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية، باختيار المجلس الشرعي لإنشاء هذا الاتحاد والاشراف عليه، يبرر سببه بأنه يتكون أساسًا من أعضاء الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية، وأن لجانه الشرعية الفرعية لا تضم إلاّ أعضاء الهيئات الشرعية، وبالتالي فإن الأساس المتين موجود، إضافة إلى صلته الكبرى بالمؤسسات المالية الإسلامية من خلال المعايير نفسها التي يصدرها لها، وترتيب المؤتمرات المصرفية، مثل المؤتمر السنوي للهيئات الشرعية، وغيرها.

 وأهم من ذلك فهو المرجع لترتيب عشرات من الدورات لأعضاء الهيئة والمدققين والمراجعين الشرعيين وغير ذلك.

 كل ذلك (وغيره مما لم نذكره) مبررات لنجاح المجلس في تكوين هذا الاتحاد والإشراف عليه وإنجاحه.

 وأما تشكيلة الاتحاد العالمي للهيئات الشرعية فلا بد أن تضم ممثلين لجميع الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية المستقلة، والفروع الإسلامية التابعة للمؤسسات المالية التقليدية.

وأما آلية الالتزام بقرارات الاتحاد فلا بدّ أن تتم من خلال النظام الأساسي للاتحاد، أو من خلال السعي لدى البنوك المركزية بإلزامية الهيئات الشرعية بقرارات الاتحاد وبالمعايير الشرعية.

وفي اعتقادي أن الطريقة المثلى المختصرة للقضاء على تضارب فتاوى المفتين في الهيئات الشرعية، هو: إقناع البنوك المركزية بإلزامية الالتزام بالمعايير الشرعية وقرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

ثانيًا ـ إنشاء شركات كبرى للتدقيق الشرعي الخارجي على غرار شركات التدقيق الخارجي المحاسبي الدولي، من حيث القوة والنظام والمرجعية والمصداقية واللوائح والأنظمة المرعية من حيث الدولية واحترام الدول لها.

ولذلك يجب علينا جميعًا السعي الحثيث لتنفيذ هذين الاقتراحين كل من موقعه، والكل عليه مسؤولية لحماية هذه التجربة الناجحة القائمة على الاقتصاد الاسلامي، وإلاّ فإنني لست متفائلاً بمستقبل المؤسسات المالية الاسلامية، مهما كبرت أموالها وازدادت استثماراتها وها نحن أولاء نرى أن عشرات التريليونات تبخرت في الهواء في هذه الأزمة المالية بسبب الربا الذي هو محق وبسبب عدم وجود اقتصاد الأعيان والأصول.

وهذه المسؤولية تقع على جميع المؤسسات المالية الإسلامية، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات الاسلامية، والمجلس الشرعي، ومجلس البنوك، والغرفة الاسلامية للصناعة والتجارة، وعلى العلماء المخلصين، ورجال الأعمال، بل على جميع الأمة الإسلامية حكامًا ومحكومين، لأن تطبيق الشريعة بصورتها الصحيحة واجب وفريضة، وأن حماية هذه التجربة مصلحة قطعية للأمة ودليل على صلاحية الإسلام للتطبيق في جميع مجالات الحياة.

إن المؤسسات المالية الإسلامية لن تنجح بالحيل والرخص الفقهية والمنتجات المقلدة للمنتجات الربوية حتى ولو غيرنا أسمائها وألبسناها عمامة العلماء، فعلينا أن نعلم أننا أمام العليم اللطيف الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم سرنا ونجوانا، وأنه قد لعن اليهود وجعل منهم قردة وخنازير حينما احتالوا على الله تعالى، وأن الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد الأصول والمنافع والخدمات والحقوق الحقيقية، وأنه اقتصاد التنمية الشاملة، وأن المال يجب أن ينمى به المجتمع ليقوم وينهض ويصبح قادرًا على الوقوف أمام مطامع الأعداء كما أراد الله تعالى حيث يقول: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)[13].

صدق الله العظيم، والله المستعان، وهو الموفق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


([1]) يراجع لمزيد من التفصيل: المسودة في أصول الفقه، ص (544)، وروضة الطالبين (11/109)، والمجموع (1/69)، والفقيه والمتفقه (2/152)، وتيسير التحرير (4/242) والاحكام للآمدي (4/222)، والاحكام لابن حزم (2/690)، وشرح الكوكب المنير، بتحقيق د.محمد الزحيلي، ود.نزيه حماد ط.جامعة أم القرى 1408هـ ( 4/55714)

([2]) لمزيد من البحث والتأصيل: يراجع بحثنا حول: الفتوى بين النص والواقع والثابت والمتغير، الضوابط والآداب، المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة الأخيرة بعمان، ومصادره المعتمدة

([3]) سورة المائدة / الآية 1

([4]) سورة الإسراء / الآية 34

([5]) يراجع: المعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ط.1428هـ/2007م، ص 478

([6]) يراجع: المعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ط.1428هـ/2007م، ص 479

([7]) يراجع: المعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ط.1428هـ/2007م، ص 479

([8]) يراجع: المعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ط.1428هـ/2007م، ص 479

([9]) يراجع: المعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ط.1428هـ/2007م، ص 479 – 480

([10]) يراجع المعيار الشرعي لضوابط الفتوى، وبحثنا حول: الفتوى بين النص والواقع والثابت والمتغير، الضوابط والآداب، المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة الأخيرة بعمان، ومصادره المعتمدة

([11]) يراجع: المعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ط.1428هـ/2007م، ص 481

([12]) يراجع: المعايير الشرعية الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ط.1428هـ/2007م، ص 482

([13]) سورة النساء / الآية 5

آخر الفتاوى