وهل على الفائز إذا تاب أن يرد المال على المؤسسة؟ وهل له الحق أن يأخذ منه شيئًا إن كان فقيرًا؟
السؤال: أستفتي فضيلتكم في رجل كان قد اشترى ورقة من أوراق (اللوتو) أوراق ذات أرقام يشتريها الناس، وكل أسبوع تقوم المؤسسة المشرفة بسحب قرعة والرقم الذي يخرج يربح صاحبه ملايين الليرات أو الدولارات، هذا الرجل حصل معه ذلك، وبعد أن عرف خاف من وقوعه في الميسر ويسأل ماذا يعمل: هل يترك المال للمؤسسة المشرفة، أم يأخذه؟ وإذا أخذه هل يجوز له أن يصرف منه لحاجاته؟ أم يأخذه ويجعله في بيت مال المسلمين (صندوق الزكاة)، أم يجوز له جعله على مصاريف مسجد أو جمعية اجتماعية؟ أم يخرج خُمسه 20% ويضعها في بيت المال، علمًا بأن الرجل يقول أنه محتاج.
لذلك أحببت استشارتكم، أفيدونا أفادكم الله
الجواب:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد
فإن مما لا خلاف فيه حرمة الميسر والقمار لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90].
وبالنسبة لما ورد في السؤال هنا، فالذي يظهر لي رجحانه هو أنه لا يترك ذلك المال للمؤسسة المقامرة، وإنما يأخذه فيصرفه في وجوه الخير العامة (ما عدا مشاريع المساجد والمصاحف) وبالتالي فيمكنه أن يضعه في جمعية اجتماعية، أو صندوق الزكاة، أو لبناء المدارس، ونحوها من وجوه الخير، قال الإمام النووي نقلاً عن الإمام الغزالي رحمهما الله تعالى : (إذا كان معه مال حرام، وأراد التوبة، والبراءة منه، فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه، أو إلى وكيله، فإن كان ميتًا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه، ويئس من معرفته، فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر والربط… مما يشترك المسلمون فيه، وإلاّ فيتصدق به على فقير أو فقراء….) فكلام الغزالي واضح، وهناك نصوص من الإمام ابن تيمية، وابن القيم رحمهما الله، في هذا المعنى، وبه قال جمهور العلماء المعاصرين، والفتاوى الجماعية.
ويدل على ذلك ما رواه أبو داود بسنده: (أن امرأة أتت بشاة طعامًا، فقال الراوي: فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه، ثم قال: (أجد لحم شاة أُخذتْ بغير إذن أهلها) ثم تثبت من المرأة فاعترفت بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (أطعميه الأسارى) رواه أبو داود وسكت عنه، الحديث رقم 3332. وقال الألباني في صحيح أبي داود: الحديث صحيح، ورواه ابن حزم في المحلى (7/415) وذكره الزيلعي في نصب الراية (4/168) وذكر أن: إسناده صحيح إلاّ كليبًا وثقه ابن حبان وابن سعد، وصححه الألباني في إرواء الغليل (3/196) وقال:(إسناده صحيح، وصححه أيضًا في تخريج مشكاة المصابيح، الحديث 5885.
وهل يحق للسائل أن يأخذ منه شيئًا أو بقدر حاجته؟
أولاً – عليه أن يتوب إلى الله تعالى توبة نصوحًا، وأن يعزم على عدم العودة، ويكثر من الاستغفار.
ثانيًا – الذي يظهر لنا رجحانه هو جواز ذلك ما دام محتاجًا وليس له مورد كسب يكفيه، فحينئذ له الحق أن يأخذ منه بقدر حاجته لنفسه، ولعياله، فالقاعدة الفقهية تقضي بأن الحاجة تقدر بقدرها.
قال الإمام العزالي: (وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حرامًا على الفقير بل يكون حلالاً طيبًا، وله – أي لصاحب المال الحرام السابق – أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرًا، لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليهم، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته، لأنه أيضًا فقير) يراجع: المجموع للنووي (9/332-334) حيث ذكر: أن ما قاله الغزالي هنا ذكره أصحاب الشافعي – وهو كما قالوه – ونقله الغزالي أيضًا عن معاوية وغيره من السلف، وعن أحمد، والحارث المحاسبي وغيرهما من أهل الورع من أنه لا يجوز إتلاف هذا المال فلم يبق إلاّ صرفه في مصالح المسلمين والله أعلم.
والكلام الذي ذكره العزالي ومعظم أصحاب الشافعي قال به الآخرون من حيث الجملة، حيث روى الزهري: (أنه قال: قال في المال الحرام الذي لا يعرف له مالك: (إن سرّه أن يتبرأ منه فليخرج منه) يراجع: مصنف ابن أبي شيبة (4/561).
وقال القرطبي في تفسيره (3/366) في تفسير الآية 279 من سورة البقرة: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ): (قال علماؤنا إن سبيل التوبة ممن في يده من الأموال الحرام إن كانت ربا فليردها على من أربى عليه…، فإن آيس من وجوده فليتصدق بذلك..) ثم ذكر بأنه (يصرفه إلى المساكين وما فيه صلاح المسلمين).
وذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/308، 322) قريبًا مما قاله الغزالي، ثم ذكر: (أن ابن مسعود اشترى جارية فدخل بيته ليأتي بالثمن، فخرج فلم يجد البائع فجعل يطوف على المساكين ويتصدق عليهم بالثمن، ويقول: اللهم عن رب الجارية فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فهو لي، وعليّ له مثله يوم القيامة).
وكذلك أفتى بعض التابعين فيمن غلّ من الغنيمة وتاب بعد تفرقهم أن يتصدق بذلك عنهم، ورضي بهذه الفتيا الصحابة والتابعون الذين بلغتهم كمعاوية وغيره من أهل الشام.
ومما هو جدير بالتنويه عليه أن رد المال الحرام على صاحبه لا يشمل من أخذه بالرضا مثل المرأة الزانية التي أخذت مبلغًا من الزاني ثم تابت ففي مثل هذه الحالات لا يجب رده على الدافع، حتى لا يجمع بين العوض والمعوض، ولأن في ذلك عونًا على الاثم والعدوان وتيسيرًا على أصحاب المعاصي، وفي هذه الحالة يجب التخلص منه بصرفه في وجوه الخير مطلقًا إلاّ إذا كان محتاجًا فله الحق في أن يأخذ منه بقدر حاجته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين العامة أو على المساكين، والدليل على عدم الرد على صاحبه، أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام، ثمن الكلب، ومهر البغي، ولم يطلب منهم ردّه على دافعه. يراجع: سنن أبي داود الحديث 3421، وابن حبان في صحيحه 5152، حيث رويا بسندهما بلفظ: (كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث)، والأمور الثلاثة تم قبضها بالرضا وفي مقابل، ولذلك لم يذكر الرد، فلو كان ذلك واجبًا لبيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يُفهم من (الخبيث) بأنه حرام يجب التخلص منه.
هذا خلاصة ما نراه راجحًا في هذا الصدد، والله أعلم بالصواب.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين