فتوى في حكم التعامل بالهامش (المارجن):

رأينا حول التعامل والتجارة في العملات عن طريق الهامش (المارجن) مع مناقشة فتوى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف عن المصارفة الدولية في العملات

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه

وبعد

فقد تدارست هذه الفتوى وتوصلت إلى ما يلي:

أولاً ـ أن الفتوى قد بذلت فيها جهود كبيرة من حيث التفصيل والتنزيل، والتأصيل والتخريج، فلا يسعني إلاّ أن نشكر أصحابها على هذه الجهود القيمة، وان ندعو لهم بالخير والبركة، ومزيد من التوفيق.

كما لا يسعنا إلاّ أن أثمن زيارتهم الكريمة لكلية الشريعة للتباحث مع أساتذتها المتخصصين حول هذه الفتوى، وإن دلت على شيء فإنما تدل على مدى العناية بهذا الموضوع، والاستماع إلى الآراء التي قد تتعارض مع هذه الفتوى، وإلى المناقشة ومزيد من التأصيل والتوضيح، كما تدل على تواضعهم الذي هو سمت العلماء الراسخين.

ثانيًا ـ لنا بعض الملاحظات على هذه الفتوى الدقيقة، منها:

1ـ أن المصارفة الدولية فيها أنواع مختلفة، استبعدت الشركة المستفتية كل أنواعها ما عدا نوعين هما:

النوع الأول ـ بيع العملات وشراؤها عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، حيث يتم البيع والشراء باتًا وعاجلاً مع الاكتفاء بالقيد المصرفي الذي يعتبر بمثابة القبض الشرعي حتى ولو طالت مدة الايداع الفعلي يومي العمل وهذا ما صدر بجوازه قرارات المجامع الفقهية، وهذا النوع ان تم بهذه الصورة ولم يصاحبه محظور شرعي آخر فهو جائز شرعًا.

النوع الثاني ـ هو بيع العملات وشراؤها عن طريق البيع البات، ولكن الثمن يؤجل لزمن محدد متفق عليه على أساس الوجاهة والضمان، وهذا ما ظهر لنا من السؤال وخطوات الشركة في هذا المجال، حيث جاء في السؤال الثاني في صفحة (6): (هل يجوز للمؤسسات المالية الكبرى التي تتعامل بالصرافة فيما بينها بوسائل العصر الالكترونية برأسمال ناتج عن عمليات مصارفة صادرة لها وعليها بضمان الالتزام القانوني ووجاهتها؟ ونعني بالوجاهة الالتزام بالأداء المؤسس على السمعة والثقة المتبادلة بين الطرفين ماديًا ومعنويًا)، فهذه العبارة تدل بوضوح على ان الشركة تتعامل مع المؤسسة المالية عن طريق ضمان الالتزام القانوني ووجاهتها…… وقد فسر الوجاهة بالسمعة والثقة…

وقد ورد كذلك التأكيد على أن القبض يتم في المستقبل ما جاء في الصفحة 10: (قيد الخصم والاضافة، وهو الالتزام المصرفي اللازم نهائيًا للبنكين المنفذين بتسليم واستلام العملتين وشراء بالسعر المعلن وفي التأريخ المتفق عليه خصمًا واضافة في حسابات كل منهما لدى الآخر)، وجاء في الصفحة نفسها: (ب) من (1): (تعاقد فوري لسعر صرف مستقبلي متفق عليه، الحق في التصرف في المال الناجم عن المصارفة والمضاف لحساب كل منهما لدى الآخر، في حال الاتفاق على سعر صرف محدد مستقبلاً، يكون في اليوم المحدد المتفق عليه لقيد القيمة) وجاء في الفقرة (2): 0 قيد القيمة، وهو قيد رأس المال الخالي من الربا، والناجم عن المصارفة في التأريخ الذي ينتهي فيه البنكان من اجراء المقاصة بينهما في الأموال المملوكة لأصحابهما، وهو التأريخ الذي يحق فيه أداء التزامات التصرف في المال الناجم عن المصارفة…) وجاء في بداية الصفحة (14): (هل يجوز شرعًا في المصارفة التعامل بأسعار الصرف العالمية، المعلنة على الشاشات الالكترونية للتعاقد بالسعر الحال المحدد المتفق عليه أو التعاقد الحال بالسعر المستقبلي، بحيث يتم التقابض في التأريخ المحدد المتفق عليه بين الطرفين؟)

وكانت اجابة مجمع البحوث الإسلامية: (نعم يجوز هذا التعامل حيث لا دليل يمنع هذا شرعًا).

كل ما سردناه من نصوص السؤال يدل بوضوح على أن العقد وان كان حالاً، ولكن القبض يأتي في الأجل المحدد المشروط الذي قد يكون شهرًا، وقد يكون أكثر أو أقل.

فإذا كان هذا الفهم سليمًا فإن هذه المعاملة بهذه الصورة غير جائزة شرعًا، حيث إن من المعلوم لدى الجميع أن عقود الصرف لا يجوز فيها التأجيل المشروط بالإجماع من المتقدمين[1] والمعاصرين[2]، والذي أجيز اليوم من خلال قرارات المجامع الفقهية هو التأخير الذي تفرضه ضرورة العصر من التأخير يومي العمل عند التحويلات الخارجية، حيث اتفق الفقهاء القدامى على أنه يشترط في الصرف تقابض البدلين من الجانبين في المجلس قبل افتراقهما، قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد)[3].

وهذا الاجماع مبني على نصوص صحيحة وصريحة من السنة النبوية القاضية بوجوب اتمام تسليم البدلين من الذهب والفضة، منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)[4] ومنها حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفوا ـ أي تزيدوا ـ بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)[5] ومنها حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الذهب بالورق ربا إلاّ هاء وهاء)[6].

وقد اتفقت المجامع الفقهية والهيئات العلمية على أن نقودنا الورقية تأخذ حكم النقود المعدنية، حيث جاء في قرار رقم 21 (9/3) لمجمع الفقه الاسلامي الدولي: (أولاً: بخصوص أحكام العملات الورقية: أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها[7]، وجاء كذلك في قرار رقم 53(4/6): (ثانيًا: إن من صورة القبض الحكمي المعتبرة شرعًا وعرفًا: 

1. القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:

‌أ- إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية.

‌ب- إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل.

ج- إذا اقتطع المصرف – بأمر العميل – مبلغا من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية.

ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلاّ بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.

2. تسلّم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه المصرف)[8] .

 والخلاصة أن النوع الثاني الذي يتم فيه القبض آجلاً لمدة زمنية محددة أو غير محددة (ما عدا يومي العمل الذي صدر بجوازه قرار من المجامع الفقهية) عقد غير جائز شرعًا لما فيه تأجيل القبض للثمنين في المصارفة، حيث ان عدم جواز ذلك محل اجماع ـ كما سبق ـ، بل ان جماهير الفقهاء بمن فيهم المذاهب الأربعة لا يجيزون تأجيل البدلين في البيع ونحوه حتى في السلع والأشياء غير الربوية، ويستثنى من ذلك عقد الاستصناع عند من أجازه وجعله عقدًا لازمًا [9].

ومن جانب آخر، فلا يمكن قياس هذا النوع على النوع الأول بجامع وجود التأخير ليومي العمل لما يأتي:

أولاً ـ أن النوع الأول عقد باتّ معجل، والثمنان معجلان، وواجبا الدفع فورًا، ويسجلان حسب القيد المصرفي، ولكن الضرورة التقنية والفنية والعملية تقتضي عدم وصول المبلغ في حالة الحوالة، ولذلك كيّف على أساس دوام المجلس لهذه الفترة من الزمن، وأن المانع الطبيعي بمثابة المعدوم فعلاً، وهذا قريب مما قاله المالكية من أن ذهاب أحد المتصارفين إلى الصراف ليعرف هل الدراهم أو الدنانير صحيحة وسليمة وغير مغشوشة حيث قال مالك فيها: (أما الشيء القريب فأرجو أن لا يكون به بأس، وهو يشبه عندي ما لو قاما إليه جميعًا)[10] قال ابن رشد: (استخف ذلك للضرورة الداعية، إذ غالب الناس لا يميزون النقود، ولأن التقابض قد حصل بينهما قبل ذلك، فلم يكن بفعلهما هذا مخالفًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالورق ربا إلاّ هاء وهاء)[11] ولو كان هذا المقدار لا يسامح فيه في الصرف لوقع الناس بذلك في حرج شديد….)[12].

وأما النوع الثاني فالعقد وان كان باتًا، ولكن الثمنين فيه مؤجلان، وبالتالي فإن التأخير المشروط، او المحدد كان بحكم العقد وشروطه وبنوده، وليس لأجل الضرورة المذكورة، وإنما لمصالح أخرى.

ثانيًا ـ أن هذا التأخير المشروط، أو المحدد في العقد يتعارض تمامًا مع اجماع الفقهاء القدامى والمعاصرين على عدم جواز تأجيل الثمنين، أو أحدهما في المجلس ما دام محل العقد الصرف والمصارفة، لأن شرط التقابض معتبر في جميع أنواع الصرف، حتى ان المالكية منعوا التأخير الطويل في الصرف حتى ولو بقيا في المجلس[13]، كما منعوا التوكيل بالصرف فقالوا في المشهور عنهم: ان وكل غيره في القبض بطل الصرف، ولو قبض بحضرة موكله، لأنه مظنة التأخير)[14].

وقد صدر قرار رقم 63(1/7) من مجمع الفقه الاسلامي الدولي بعدم جواز أية مصارفة ما دام هناك تأخير للثمنين أو لأحدهما، حيث جاء فيه: (يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.

ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.

أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة)، والطرق الأربع المنظمة في الأسواق العالمية هي:

(الطريقة الأولى: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.

وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.

الطريقة الثانية: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.

وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.

الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطًا يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم.

وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز.

وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلمًا قبل قبضها.

الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطًا يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.

وهذا هو النوع الأكثر شيوعًا في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً)..

ثالثًا ـ وقفات مع الاجابات الواردة من مجمع البحوث الاسلامية بالأزهر الشريف على أسئلة الشركة المستفتية:

الوقفة الأولى: ان الاجابات من مجمع البحوث الموقر، في مجموعها اجابات تنم عن الجهود الكبيرة التي بذلتها اللجنة المعدة لها، فلها منا كل الشكر، ومن الله تعالى الجزاء الأوفى، ولكنها لم تمسّ جوهر النوع الثاني الذي بيناه في هذه العجالة، بل انصبّ معظمها على قضايا عامة لا خلاف فيها، أو الأرجح منها ما ذكروه.

أ ـ فمثلاً: ان الاجابة عن المسألة الأولى لشركة جي اف تي ايه، وهي بيع عملة بعملة أخرى مختلفة القيمة والجنسية…..؟، (نعم يجوز بدليل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: اذا اختلف الجنسان فبيعوا……) ليس هذا محل خلاف، فالتعامل بالعملات بيعًا وشراءً إذا توافرت شروطه جائز بالاتفاق، وقد استعرض مجمع البحوث أدلة هذه الجزئية مع مناقشة بعض الأمور في أربع صفحات.

ب ـ عرضت شركة جي اف تي ايه، الخطوة الأولى، وبنت عليها المسألة الثانية وهي: (هل يجوز التعامل بالمصارفة الدولية بوسائل العصر الالكترونية….)، وكان جواب مجمع البحوث الموقر كالآتي: (يجوز لأنه لا يوجد في هذه المعاملة دليل يمنع من ذلك شرعًا….) ثم جاء الدليل مركزًا على مشروعية الضمان ومشروعية الوجاهة، ومشروعية التعامل بالوسائل العصرية في المصارفة.

فهذه الأمور بصورها العامة مشروعة بالاتفاق، أو في الأرجح.

لكن السؤال ليس في هذا الأمر العام المتفق عليه وانما في جواز التعاقد على أساس الضمان والمواجهة، أي اجراء العقد البات بين الطرفين، مع تأجيل الثمنين، أو أحدهما بناء على الضمان والوجاهة…… فهل هذا يجوز؟

هذا هو السؤال الذي ينبغي الرد عليه، في حين أن الجواب لم يمسّ هذا الجانب ولم يذكر دليلاً ولا مناقشة.

ومن المتفق عليه بين العلماء السابقين أن تأخير البدلين أو أحدهما عن مجلس العقد لا يجوز مع ألف ضمان أو وجاهة.

ج ـ ذكرت الشركة جي اف تي ايه، الخطوة الثالثة في الصفحة (9) ونصت في الصفحة (10) المقصود بالعملية المسؤول عنها، وهي تأخير استلام العملتين إلى التأريخ المتفق عليه.

 ثم نص سؤالها في فقرة (ب): (الاتفاق على سعر صرف محدد مستقبلاً…..) ثم أتت بسؤال فيه شيء من الغموض، فكانت الاجابة من مجمع البحوث الموقر: (نعم يجوز، حيث يعد ذلك تقابضًا حكميًا، والقبض في كل شيء بحسبه).

 وحسب فهمنا للموضوع، وخبرتنا في مجال التجارة في العملات والمصارفة في الأسواق الدولية فإن السؤال الصحيح كان ينبغي أن يكون حول اجراء عقد باتّ ولكن يؤخر الثمنان، أو أحدهما سواء حدد الثمن الآن، أو في المستقبل.

ثم استدل المجمع على جواز ذلك بأن التقابض الحكمي قد تحقق، وأن القبض في كل شيء بحسبه.

والحقيقة أنه ليس هناك تقابض أبدًا، وإنما هناك عقد فقط مع اشتراط أو تحديد قبض الثمن في الأجل فهل هذا جائز؟

هذا هو المراد مما ورد عن الشركة وان كانت صيغة السؤال لم تكن واضحة، ولكن مقدمات الشركة وخطواتها المذكورة تدل على ذلك بوضوح، حيث جاء في المسألة الرابعة بيان النوعين: العاجل، والآجل في الصفحة (14).

د ـ ذكرت الشركة المذكورة في خطوتها الرابعة، وفي المسألة الرابعة نوعين من المصارفة الدولية، حيث قالت: (هل يجوز شرعًا… التعاقد الحال بالسعر الحال المحدد المتفق عليه، أو التعاقد الحال بالسعر المستقبلي، بحيث يتم التقابض في التأريخ المحدد المتفق عليه بين الطرفين).

حيث تدل هذه الفقرة على أن فهمنا لطبيعة السؤال سليم، حيث كان عن هذين النوعين اللذين أولهما جائز شرعًا اذا توافرت بقية الشروط، وثانيهما غير جائز.

ومع ذلك جاء جواب مجمع البحوث الموقر بالجواز مطلقًا دون تفرقة بين هذين النوعين بقوله: (نعم يجوز هذا التعامل، حيث لا دليل يمنع هذا شرعًا).

ثم ذكر أسانيد الجواز من الآيات القرآنية الدالة على أن التراضي هو الأساس، ومن السنة المشرفة الدالة على أن البيع عن تراض.

فهذه الأدلة العامة مخصصة بالإجماع القائم على النصوص القطعية أو الظاهرة بالربا والبيوع المنهي عنها، حيث لا قيمة للرضا مع وجود المحرمات، ولذلك كان ربط الحلال في القرآن الكريم بتجارة عن تراض وليس بمجرد التراضي، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)[15].

واستدل مجمع البحوث الموقر بما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من جواز المصارفة في الذمة (وهي ما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما) من أنه كان يبيع الابل بالدنانير، ويأخذ مكانها الدراهم، أو بالعكس، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)، وهو حديث فيه مقال[16].

وما قاله الفقهاء، وما يدل عليه هذا الحديث (فيما لو كان صحيحًا) لا يدل على جواز المصارفة بالأجل، وإنما يدل على جواز أخذ البدل عن دين ثابت في الذمة بنقد آخر وبسعر يوم السداد ودون تفرقة بينهما.

فما بناه مجمع البحوث على كلام هؤلاء الأئمة الأعلام من أنه (يجوز التعاقد المستقبلي في حدود المدة المحددة المقدرة في السؤال….) محل نظر لعدة وجوه منها:

أن لازم المذهب ليس بمذهب

أن سؤال الشركة المذكورة كان في تأخير محدد (أو مشروط) للثمنين في عقد المصارفة وفي الختام نرجو أننا بهذه الورقة المتواضعة قد أوضحنا موقفنا من هذه الفتوى، وأجلينا عن موضوعها الغموض، والايهام، وحققنا ما نصبو إليه، ووضعنا رأينا المتواضع أمام مجمع البحوث الاسلامية، حيث نرى نحن أن أسئلة الشركة وواقع المصارفة الدولية التي ذكرتها الشركة لم تكن محصورة على النوع الأول الجائز شرعًا، وإنما كانت تشمل النوع الثاني المتضمن تأجيل العملتين، أو إحداهما عن طريق العقد وبنوده.

ونرى أن اجابات مجمع البحوث تنصبّ على النوع الأول فقط دون النوع الثاني المحظور شرعًا.

وكلنا أمل في أن مجمع البحوث الاسلامية بالأزهر الشريف يستوضح من الشركة جي في تي ايه عما ذكرناه، بل يطلب من الخبراء الاقتصاديين توضيح ما يجري بشأن المصارفة الدولية.

هذا والله الموفق وهو الهادي إلى سواء الطريق

رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


([1]) يراجع: بدائع الصنائع (5/215) وفتح القدير (6/259) وجواهر الاكليل (2/10) ومغني المحتاج (2/25) والمغني لابن قدامة ( 4/41)

([2]) قرارات المجامع الفقهية، وبخاصة قرار مجمع الفقه الاسلامي الدولي قرار رقم 53(4/6) وقرار رقم 63 (1/7)

([3]) يراجع: المغني لابن قدامة (4/47) وبداية المجتهد (2/142، 195، 196) وفتح الباري (4/303، 305) ونيل الأوطار (5/193-194) وموسوعة الاجماع ط. قطر (2/604)

([4]) الحديث رواه مسلم ط. الحلبي ( 3/1211)

([5])رواه البخاري ـ مع الفتح ط. السلفية ( 4/380)، ومسلم (3/1208)

([6]) رواه البخاري ـ مع الفتح ( 4/347)

([7]) مجلة مجمع الفقه الاسلامي الدولي، العدد 3 الجزء 3 ص 1650، والعدد 5 الجزء 3 ص1609

([8]) مجلة مجمع الفقه الاسلامي الدولي العدد6 الجزء 1 ص 453

([9]) يراجع: فتح القدير (6/453) وحاشية ابن عابدين (4/650) وبداية المجتهد (2/94) والمجموع (9/3251) ومنتهى الارادات (2/32)

([10]) مواهب الجليل ( 4/303)

([11]) سبق تخريجه

([12]) مواهب الجليل ( 4/303)

([13]) جواهر الاكليل (2/10) والشرح الصغير (3/49)

([14]) جواهر الاكليل (2/10)

([15]) سورة النساء / الآية29 ويراجع لمزيد من التفصيل: د. علي القره داغي: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة ط. دار البشائر الاسلامية ببيروت

([16]) رواه أبو داود ( 3/651)

آخر الفتاوى