الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن مما لا شك فيه أن الإسلام من خلال كتابه العظيم (القرآن الكريم) وسنة نبيّه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، يؤكدان على التعامل بالعدل، والبرّ والإحسان لغير المسلمين ما داموا لا يحاربوننا فقال تعالى:(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8]، كما أمرنا الله تعالى بالتعايش السلمي معهم، وحلّ جميع المشاكل بالحوار بالتي هي أحسن فقال تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125] وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت: 46]، وكذلك أكّد الإسلام على توطيد أواصر الجانب الاجتماعي والإنساني بين المسلمين وغيرهم وبخاصة أهل الكتاب، ولذلك أجاز الزواج من نسائهم، وبذلك تصبح المرأة الكتابية أُمًا لأولاد المسلمين، ووالداها جدًا أو جدة، وإخوانها أخوالاً لهم، فتصبح بينهم قرابة ومصاهرة، كما أجاز أكل طعامهم، وأن يأكلوا من طعامنا، كل ذلك لتقوية الجانب الاجتماعي.
ومن هذا الباب تأتي مسألة التهنئة بالأعياد التي تسمى كريسمس، رأس السنة الميلادية، حيث إن أعياد رأس السنة الميلادية لم تعد أعيادًا دينية مسيحية، بل هي احتفالات عادية يقوم بها العلمانيون في الغرب والشرق، كما أنها لا تقام في الكنائس، وإنما في الشوارع ونحوها، وميلاد سيدنا المسيح عليه السلام لم يكن في بداية السنة، بل هناك خلاف في تأريخ ميلاده، والقرآن الكريم ذكر بأن السيدة مريم عليها السلام عند مخاضها التجأت إلى جذع النخلة المثمرة بالرطب فقال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) [مريم: 25-26] ولذلك فهم منه بعض العلماء بأن الولادة لم تكن في الشتاء، وحتى المسيحيون مختلفون في ذلك، فالمسيحيون الغربيون يقولون: إنه ولد في 25 ديسمبر، أو في يناير كما يقول المسيحيون الشرقيون، وقد ورد في إنجيل لوقا إصحاح2، عدد8-9-10-11، حكاية عن ميلاد المسيح عليه السلام يفهم منها أن ولادته كانت في وقت كان الرعي فيه ممكنًا في الحقول في بداية الشتاء، وهذا ما أكده الأسقف (بارنز)، وأكدته (دائرة المعارف البريطانية ج5ص642-643) بأن: آباء الكنيسة اختاروا في عام 340م لتحديد تأريخ الاحتفال بالعيد يوم الانقلاب الشمسي في الشتاء وهو 25 ديسمبر، وقد أكد الدكتور بيك في تفسير الكتاب المقدس ص727: أن المسيح ولد في شهر أغسطس، وكتب الدكتور جون أفير في كتابه قاموس الكتاب المقدس ص117أن:الرطب ينضج في الشهر اليهودي أيلول، وهو يطابق شهر أغسطس وسبتمبر.
كما أن التهنئة لا يفهم منها لغة ولا شرعًا الرضا بما عليه الشخص، أو اعتناق عقيدته، وإنما هي مشاركة اجتماعية، ومجاملة إنسانية لزميلك، أو جارك، ووسيلة للتقارب والتعايش.
وبناءً على ذلك فإن قيام المسلمين الذي يعيشون مع غير المسلمين (مثل ما هو الحال في روسيا وغيرها) بتهنئة جيرانهم وزملائهم ومعارفهم من غير المسلمين بهذه المناسبات التي لا يقصد بها إحياء طقوس دينية خاصة بهم، كما أن ذلك داخل في البرّ المأمور به، والإحسان المطلوب، ولكن بشرط أن لا يقصد المهنئ بتهنئته تأييد المنكرات المصاحبة لهذه الاحتفالات، ولا الرضا بما لديهم من مخالفات، ولا بالكفر والشركيات، وإنما نيته تقوية أواصر العلاقة بين المسلمين وهؤلاء لخدمة الإسلام والمسلمين في المنطقة، فهؤلاء يهنئون المسلمين حتى في أعيادهم الدينية في الغالب، فلا مانع من ردّ تهنئتهم بهذه النيّة المذكورة آنفًا فقد قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86]، ولكن لا يجوز للمسلم أو المسلمة التعاون على الاثم، ولا المشاركة في المحرمات أو الاحتفال الذي فيه المحرمات.
وهذا رأي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، حيث جاء في فتواه: (وتتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا –كما ذكر السائل- يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء:86] ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرمًا، وأدنى حظًا من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر – حظًا، والأكمل خلقًا، كما جاء في الحديث: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا” وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم المسلمين، وهذا واجب علينا فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم بل بحسن التواصل.
وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- حسن الخلق، كريم العشرة، مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه. حتى إنهم –لثقتهم به عليه الصلاة والسلام- كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى إنه –صلى الله عليه وسلم- حين هاجر إلى المدينة، ترك عليًا رضي الله عنه، وأمره برد الودائع إلى أصحابها.
فلا مانع إذن أن يهنئهم الفرد المسلم، أو المركز الإسلامي بهذه المناسبة، مشافهة أو بالبطاقات التي لا تشتمل على شعار أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام مثل (الصليب) فإن الإسلام ينفي فكرة الصليب ذاتها (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء157].
والكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات لا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما هي كلمات مجاملة تعارفها الناس.
ولا مانع من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبي –صلى الله عليه وسلم – هدايا غير المسلمين مثل المقوقس عظيم القبط بمصر وغيره، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير).
وفي الختام نوصي إخواننا وأخواتنا بالالتزام بالأخلاق والقيم الإسلامية من الرحمة، والبرّ والاحسان والعدل في التعامل فيما بينهم وبين غيرهم، حتى يكونوا قدوة حسنة.
هذا والله أعلم وهو المستعان
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
الدوحة في 14 ربيع الأول 1436هـ
الموافق 05 January 2015