فتوى حول: زكاة الإيجارات، ومدى جواز فتح حساب للزكاة، أو تأخيرها.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،

السؤال: فبعد مقابلتي في برنامج الشريعة والحياة بقناة الجزيرة 15 رمضان 1441ه، انهالت عليّ مجموعة من الأسئلة، وأهمها: (استمعنا البارحة إلى حلقتكم المميزة من برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة وقد استفدنا منها كثيرًا ولله الحمد في بسطكم لفريضة الزكاة من حيث اخراجها وتوزيعها وأنه قد استوقفتني بعض المسائل فنريد تبيينها والرد عليها بفتوى خاصة بحالتنا نتخذها منهجًا في أداء فريضة الزكاة:

1- زكاة الإيجارات: كنا فيما سبق نخرج الزكاة من الايجارات التي نتحصلها سنويًا أو كل ستة أشهر في يوم تحصيل الإيجار.

2- كان ولا يزال عندنا حساب تودع فيه أموال الزكاة إبراءً للذمة في موعدها ونقوم بصرفها في مصارفها مجتهدين أن تكون في مصارفها الشرعية ولمستحقيها حسب ما يظهر لنا من أحوالهم

ولكن اتباعًا لفتاوى بعض العلماء جزاهم الله خيرًا أوقفنا زكاة الإيجارات يوم تحصيلها ونضمها لأموالنا الموجودة ونزكيها في اول رمضان دائمًا حتى وإن لم يحل عليها الحول

وكذلك قد أوقفنا حساب الزكاة أيضًا لفتوى أن إيداعها في الحساب لا يعد إبراء للذمة بإخراجها.

لذا أطلب من فضيلتكم أن تفتونا في هذين الأمرين فتوى قاطعة في زكاة الإيجارات السنوية ونصف السنوية والشهرية وكذلك الحساب البنكي الخاص بزكاة أموالنا.)

الجواب: 2

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

الموضوع الأول: زكاة الإيجارات:

تمهيد

أولى الإسلام عناية قصوى بالزكاة حتى في العهد المكي، وبيّن بأنها فريضة ثابتة في جميع الشرائع السماوية منذ عهد سيدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال في حقهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [1]، ثم نزلت مجموعة من الآيات المفصلة في العهد المدني، وقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ببيانها وتفصيلها حسب الأموال الموجودة.

ولكن معظم الآيات القرآنية المكية والمدنية ظلت تحمل قواعد عامة، ومبادئ شاملة وصالحة لكل عصر، مثل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[2] وقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[3]، ومثل قوله تعالى في زكاة ما تنتجه الأرض: (…وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)[4]، ومثل قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..)[5].

ولذلك فالذي يظهر بوضوح من هذه الآيات الكريمة، ومن أحاديث صحيحة أن الزكاة تجب في جميع ما يطلق عليه لفظ المال، إذا توافرت فيه الشروط الأساسية للزكاة، والمال في لغة العرب هو كل ما ينتفع به عينًا، أو منفعة، أو حقًا، وهذا ما سار عليه جمع كبير من فقهاء السلف والخلف، ولكن جمعًا آخر من الفقهاء حصروا الزكاة في الأموال السائدة في عصر الرسالة، ولذلك لم يوجبوا الزكاة في الايجارات إلاّ إذا حال عليها الحول، وبلغت النصاب.

رأي الفقهاء في زكاة الإيجارات:

وبناء عليه فإن جماعة من الفقهاء قديمًا وحديثًا يرون وجوب الزكاة في العقارات نفسها ما دامت معدّة للإيجار وفي غلتها (أجرتها) أيضًا، بنسبة 2,5%.

فمن القدامى قول مخرّج للإمام أحمد، حيث يرى إيجاب الزكاة في حليّ للكراء (أي للتأجير) [6] وللإمام ابن عقيل الحنبلي، ووافقه العلامة ابن القيم[7]، وهو قول للمالكية[8].

وكذلك ذهب جماعة من الفقهاء المعاصرين إلى وجوب تزكية الإيجارات مثل زكاة الزروع والثمار، وهذا رأي معظم شيوخنا الكبار أبو زهرة، وعبد الوهاب الخلاف، والشيخ عبد الرحمن حسني[9]، والشيخ مصطفى الزرقا[10]، والشيخ يوسف القرضاوي[11]، حيث يوجبون 10% من صافي الغلة والأجرة، أو 5% قبل المصاريف والصيانة[12].

ولكن الشيخ القرضاوي يوجب هذه النسبة بعد إعفاء نسبة الاستهلاك[13].

الفتوى (رأيي في المسألة):

والذي يظهر لنا رجحانه بوضوح هو وجوب الزكاة في إجمالي أجرة العقارات والعمارات والسيارات ونحوها، بنسبة 2,5%، وذلك لما يأتي:

أولاً – إن جميع الآيات والأحاديث التي ذكرت حق الله تعالى في الأموال جاءت بصيغة العموم لجميع أنواع المال، أو بإطلاقها، وبالتالي تبقى على عمومها أو إطلاقها إلا إذا دلّ دليل صحيح وصريح على تخصيصها، مثل تخصيص الأموال بأن تبلغ النصاب أو نحو ذلك.

ثانيًا- وأما شمول الأموال لجميع الأموال المملوكة النامية التي بلغت النصاب فليس عليه أي دليل قادر على تخصيصها، ومن المعلوم في علم أصول الفقه أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتطبيقاته بيان واضح لكيفية تطبيق ما أنزل الله، ولا تخصص بها النصوص العامة، لأن التخصيص من خصائص القول وليس من خصائص الأفعال، مثل ما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم من السيوف والرماح، والخيول ونحوها، حيث لا يدل ما فعله على تخصيص قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..)[14]. بما فعله، ولذلك يجب على أمتنا اليوم أن تطبق الآية بوسائل القوة العسكرية اليوم، وهكذا النصوص الكثيرة الدالة على وجوب الحق في الأموال الجديدة، مثل الحقوق المعنوية التي تباع بملايين الدولارات، مثل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[15] وقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[16]، وقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا…..)[17].

ثالثًا- أن النتيجة التي ينبغي أن لا يحوم حولها شك هو وجوب الزكاة في الأصول الدارّة مثل العقارات والطائرات والسفن والسيارات المستأجرة؛ لأنها أموال ويحول الحول عليها.

رابعًا- ثم بعد هذه النتيجة يكون أمامنا البحث عن نسبة الزكاة ومقدارها وحولها، ونصابها من الشروط المطلوبة:

أ- فقد ذهب بعض الفقهاء القدامى والمعاصرين إلى أن زكاتها زكاة عروض التجارة أي يقوّم الأصل المؤجر (العقار أو الطائرة) عند حولان الحول بقيمة السوق، ثم تدفع منها الزكاة بنسبة 2.5%.

وهذا القول مع كونه مخالفًا لرأي جماهير الفقهاء، لكنه مجحف بصاحب الأصل المؤجر، حيث إن تكلفة الزكاة عالية جدًا وقد تقضي على قيمة الأصل خلال عدة سنوات، وهذا المنهج لا يتفق مع المنهج الوسطي المعتدل الذي رسمه الإسلام، وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في أخذ الزكاة حيث نهى العاملين عليها أن يأخذوا كرامها وأفضلها، كما نهى عن دفع أخسها، فقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لمّا بعثه إلى أهل اليمن: (.. وتوقّ كرائم أموال الناس) [18].

بالإضافة إلى ما سبق فإن العقار المؤجر لا يدخل ضمن عروض التجارة لغة وفقهًا، فكيف تدخل فيها زكاة، فمن المعلوم أن عرضو التجارة التي تجب فيها الزكاة هي الأموال المعدّة للبيع والتبادل، وبنيّة التجارة، حيث عرّف الفقهاء مال التجارة، بأنه: (كل ما قصد الاتجار به عند اكتساب الملك بمعاوضة…) [19].

ولذلك فهذا الرأي لا يتفق مع الميزان الدقيق للشرع القائم على رعاية حقوق الفقراء والأغنياء معًا، كما أن ذلك يؤدي إلى عدم توجه المستثمرين إلى شراء عقارات للإيجار، لأن الزكاة لا تقضي على الربح فقط، بل على رأس المال، فعلى سبيل المثال ففي عصرنا (1441ه) هناك قيمة متدنية للإيجارات في معظم الدول تتراوح بين 3-6%، فلو فرضنا: شخصًا اشترى عقارًا بعشرة ملايين ريال، وأجرّها بـ 3% من قيمتها، وجاءت الزكاة حسب القيمة السنوية، فلا يبقى له شيء يذكر، وقد يخسر.

وفلسفة الشريعة في نسبة الزكاة تتفق مع ما يقال اليوم بالضريبة الموجهة أو المشجعة، وبما أن الحصول على الأصول (العقارات ونحوها) من المقاصد المطلوبة المهمة التي يشجع عليها الإسلام فلا بدّ أن لا يكون الزكاة عقبة في طريق ذلك.

والدليل على أن شراء الأصول وعدم التهاون فيها مطلوب، هو ماورد في حديث صحيح عن سعيد بن حريث رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع دارًا او عقارًا فلم يجعل ثمنها في مثله كان قمينًا أن لا يبارك له فيه) [20].

ب- وأما رأي شيوخنا المذكورين بوجوب 10% او 5% قياسًا على ما تنتجه الأرض فلا تسنده الأدلة المعتبرة، وأنه القياس مع الفارق؛ لأن الأرض المنتجة ليس للإنسان دور في وجودها وبنائها، في حين أن العقارات (ونحوها) مصنوعات إنسانية، كما أن الأرض باقية دائمة إلى ما شاء الله، وأما العقارات فلها عمر محدود، وحتى لو حسبنا نسبة الاستهلاك فلن تغيّر حقيقتها من قابليتها للهدم والتلف.

وبالإضافة إلى ما سبق فإن الناتج من العقارات ونحوها هو الإيجارات وهي ليست ناتجة مباشرة منها، بل هي ناتجة عن عقد بين المؤجر والمستأجر، في حين أن ثمار الأرض وأشجارها ناتجة مباشرة من الأرض، ولذلك فرق أهل اللغة والفقه بين الأجرة والكراء، والربح والثمر، فالأجرة والكراء هو الدخل الناتج من تأجير أصل (عقار ونحوه) وبين الربح هو الدخل الناتج من البيع والتجارة، والثمار هي ما تنتجه الأرض والشجرة[21]، فقال تعالى: (…وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ..) [22].

ومن جانب آخر فإن الأجرة الحاصلة من العقارات ونحوها هي النقود في الغالب، أو ما يقابلها، وليست من جنس العقار – مثلاً – في حين أن الناتج من الأرض الحبوب والثمار ونحوهما، فزكاتهما مختلفة عن زكاة النقود.

خلاصة الرأي الراجح:

وبناء على كل ما سبق فإن الذي نراه راجحًا وصحيحًا هو القول بوجوب الزكاة في إجمالي الإيرادات بنسبة 2.5% حسب السنة القمرية، وبنسبة 2.577 للسنة الشمسية، وفقًا لما يأتي:

1- أن يصل إجمالي الإيرادات في السنة النصاب الشرعي للنقود وهو قيمة 85 جرامًا من الذهب الخالص (عيار 24)، أي ما يعادل اليوم 17-5-2020م مبلغ 18,000 ثمانية عشر ألف ريال، ويعادله مبلغ 5,000 دولار تقريبًا، مع ملاحظة ارتفاع وانخفاض قيمة الذهب.

  1. وبما أن حولان الحول يتحقق من خلال العام، فإن الأصل هو أن يعطي المالك الزكاة في كل شهر، ولا مانع شرعًا أن يدفع زكاة إيجاراته في آخر الحول، ولا سيما إذا كانت مبالغ قليلة، وإذا دفع زكاة إيجاراته شهريًا، فإنه يحسمها (أي يخصمها) إن بقيت من المبالغ المتراكمة عندما يدفع زكاة بقية نقوده، ولتطبيق ذلك نورد المثال الآتي:
جدول زكاة الإيجارات حسب السنة الشمسية (كما هو المعمول بها الآن)
الشهرقيمة الأجرةمبلغ الزكاةالملاحظات
يناير100,0002,577أجرة عمارته المتفق عليها
فبراير100,0002,577
مارس100,0002,577
إبريل100,0002,577
مايو80,0002,061نزلت قيمة الإيجارات، أو خرج منها أحد المستأجرين – مثلاً-
يونيو90,0002,319
يوليو100,0002,577أجرة عمارته المتفق عليها
أغسطس100,0002,577
سبتمبر100,0002,577
أكتوبر100,0002,577
نوفمبر100,0002,577
ديسمبر0000000000لم يحصل أي أجر لأي سبب..
 1,070,00027,573 

ملحوظتان مهمتان:

الأولى: يمكن أن يدفع لكل شهر زكاة أجرته، ويمكن أن يدفع المبلغ الكلي مرة واحدة 27,573 عند آخر الحول.

الثانية: ما يتبقى في الحساب من مبلغ 1,070,00 الذي دفع عنه زكاته شهريًا لا يجب عليه دفع الزكاة مرة ثانية عن هذا المبلغ، لأنه لا ثني -أي تكرار- في الزكاة في العام الواحد، ولكن لو بقي للعام اللاحق فيحسب ضمن موجوداته الزكوية، فيدفع عنه زكاته.

الموضوع الثاني: فتح حساب للزكاة:

الأصل الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن زمن زكاة ما تنتجه الأرض هو يوم حصاده كما قال الله تعالى: (… وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)[23]، وفي ذلك حكمة وهي أن يعرف الفقراء في بداية السنة ما يصل إليهم من الحبوب والثمار، فيحسبون حسبتهم لبقية العام.

وما سواه مرتبط ببلوغ النصاب، فما يشترط فيه الحول يحسب زكاته من يوم بلوغ النصاب وهو 85 جرامًا من الذهب – كما سبق -، وبالتالي فهذا يمكن أن يحدث في أي شهر، ويختلف من شخص إلى آخر، وبالتالي فإن أوقات دفع الزكاة تعم العام وتشمله، وفي ذلك حكم ومقاصد من أهمها استمرار توزيع الأموال طوال السنة.

لذلك فوجود حساب تودع فيه أموال الزكاة إخراجًا لها من الذمة، وإبراءً لها في موعدها، ثم القيام بصرفها في مصارفها الشرعية دون تأخير متعمد، أمر متوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، ومبادئها العامة، وعمل تنظيمي يدعو إليه الإسلام حسب الضوابط الآتية:

أ- وجود حساب داخلي للشخص المزكي لجميع زكواته الخاصة بالإيجارات والرواتب والمكافآت الشهرية ليصرفها طوال السنة حسب الأشهر، فهذا أمر جائز بلا شك لأنه لم يترتب عليه التأخير، فالسنة الكاملة هي وعاء هذه الأموال.

ب- فتح حساب لدفع الزكاة المعجلة، أي أن يدفع زكاة عام 1442ه في عام 1441ه -مثلاً-، وبالتالي فهذا أيضًا جائز عند جماهير الفقهاء.

ج- فتح حساب للزكاة التي حلّ وقتها وحال عليها الحول، أي زكاة العام الماضي، فهذا يجوز أيضًا بالشروط الآتية:

1- أن يبدأ بصرف معظم زكاته فورًا على المستحقين الموجودين.

2- إذا لم يكن المستحقون موجودين فيجوز له إبقاء زكاته كلها أو بعضها لحين حصوله عليهم.

3- إذا وجد مستحقون، ولكن كان هناك مَنْ هو أحوج منهم، أو أصلح أو قريب، أو نحو ذلك فله تأخيرها، وذلك مثل الفقراء الأقارب، أو المنكوبين في الزلازل، والحروب والكوارث، حيث يجوز نقل الزكاة إليهم أيضًا ولو تأخر الوصول.

تأخير الزكاة:

وفي غير هذه الحالات السابقة يرد السؤال: هل يجوز تأخير الزكاة لفترة زمنية لا تزيد عن العام؟

للجواب عن ذلك نقول: إن هذه المسألة مرتبطة بمذاهب العلماء في هل الزكاة يجب أداؤها فورًا أم أن فيها سعة؟

فذهب جمهور العلماء إلى أنها واجبة على الفور إلاّ لحاجة او مصلحة معتبرة، وذهب عامة مشايخ الحنفية[24]، والحنابلة[25] في قول إلى أنها على سبيل التراخي بناء على عدم وجود دليل صحيح صريح نص في وجوبها فورًا.

ومع أن الراجح عندي هو قول الجمهور، لكن قصدي أن المسألة ليست محل إجماع، وبالتالي يمكن الاجتهاد فيها، ولذلك نرى ما يأتي:

أولاً- المبادرة والمسارعة إلى إخراجها بقدر الإمكان ما دام المستحقون موجودين.

ثانيًا- جواز التأخير إلى آخر سنة الوجوب في الحالات الآتية:

أ- عدم حضور ماله عند المزكي، فينتظر إلى التمكن منه.

ب- وجود ضرر يلحق بالمزكي، مثل أنه ليس لديه سيولة نقدية، ولا يمكنه تحصيل قيمة الزكاة، ولكن عنده وديعة يحل أجلها بعد فترة قصيرة، فلو كسرها خسر كل أرباحه أو جزءًا منها، وفي هذه الحالة يجوز له التأخير إلى أن يتمكن منها.

ج- وجود مصلحة مؤكدة او حاجة ملحة، مثل التأخير لأجل إيصالها إلى الفقراء الأقارب أو الأكثر حاجة، أو انتظار مَنْ هم أكثر حاجة، أو حتى تشمل أكبر قدر ممكن من الفقراء الأكثر حاجة كما في السؤال، أو نحو ذلك.

د- تقسيط زكاته كرواتب للفقراء، أو لكفالة اليتامى والأرامل الأكثر حاجة، بحيث لو دفع لهم مرة واحدة لاستهلكوها خلال فترة قصيرة، في حين لو وزعت عليهم طول أشهر السنة لكفتهم، ففي هذه الحالة يجوز تقسيطها على أشهر السنة الواحدة، وهذا ما تفعله معظم الجمعيات والصناديق الخاصة بالزكاة، إذ لا يمكن صرف الزكوات كلها في أسبوع واحد أو شهر واحد.

ويؤكد ذلك أن تأخير دفع الزكاة، أو توزيعها لمصلحة معتبرة، أو حاجة مقبولة أجازه الشافعية والحنابلة، وهو اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام، وغيرهم.

فإذا كان تأخير الزكاة جائزًا في الحالات السابقة فإن الوسائل المنظمة لذلك التأخير جائزة بطريق أولى.

ومن أهم الوسائل المحافظة على المال وتنظيم توزيعه هو وجود حساب خاص بالزكاة لكل شخص، يضع فيه ما يتبقى من زكاته فينفقها حسب الحاجة والمصلحة المعتبرة (التي ذكرناها)، فيدفع منها رواتب للفقراء واليتامى والأرامل وللأقارب المحتاجين ونحوهم، وكل ذلك مشروط بشرط أن لا يتجاوز توزيع الزكاة العام الذي دفع فيه الزكاة، وأن يكون المزكي حريصًا على المبادرة والمسارعة بتوزيع زكاته فورًا إلاّ للحالات التي ذكرناها.

هذا والله أعلم بالصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

        كتبه الفقير إلى ربه

                            أ.د. علي محيى الدين القره داغي

 الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

                      وأستاذ الشريعة والاقتصاد الإسلامي بجامعة قطر


([1]) سورة الأنبياء / الآية 73

([2]) سورة المعارج / الآية 24-25

([3]) سورة الذاريات/ الآية 19

([4]) سورة الأنعام / الآية 141

([5]) سورة التوبة / الآية 103

([6]) يراجع: الإنصاف (3/45)

([7]) جاء الإنصاف (3/45): (وذكر ابن عقيل في عمد الأدلة والفنون تخريجًا بوجوب الزكاة فيما أعد للإجارة من العقار والحيوان وغيره في القيمة) ونقل العلامة ابن القيم قول ابن عقيل في بدائع الفوائد (3/1057) حيث قال ابن عقيل: (وإنما خرجت ذلك على الحليّ، لأنه قد بينت من أصلنا: أن الحليّ لا تجب فيه الزكاة، فإذا أعد للكراء وجبت، فإذا ثبت أن الإعداد للكراء أنشأ ايجاب الزكاة في شيء لا تجب فيه الزكاة، كان في جميع العروض التي لا تجب فيها الزكاة ينشئ ايجاب الزكاة….) ثم قال: (.. فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها أن ينشئ فيها الإعداد للكراء زكاة).، ويراجع فقه الزكاة للشيخ القرضاوي (1/470)

([8]) بداية المجتهد ط. الكليات الأزهرية 1409ه القاهرة (1/425) والإشراف على نكتب مسائل الخلاف (1/401) وهو مذهب الزيدية والهادوية كما في البحر الزخار (2/147).

([9]) حيث قدموا بحثًا إلى حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدتها الجامعة العربية في دورتها الثالثة بدمشق عام 1961م، ص 24-242

([10]) ورقع الشيخ مصطفى الزرقا بعنوان: جوانب من الزكاة تحتاج إلى نظر فقهي جديد، المنشور في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز، ع2، ص 191

([11]) فقه الزكاة (1/284)

([12]) المرجع السابق نفسه

([13]) المرجع السابق نفسه

([14]) سورة الأنفال / الآية 60

([15]) سورة المعارج / الآية 24-25

([16]) سورة الذاريات/ الآية 19

([17]) سورة التوبة / الآية 103

([18]) رواه البخاري في صحيحه 7372، 1458، ومسلم 19، 1438

([19]) يراجع الموسوعة الفقهية الكويتية (1/154) مصطلح (تجارة)

([20]) رواه أحمد (17990) وابن ماجه (2481)، ورواه ابن ماجه بسند حسن عن حذيفة بن اليمان الحديث رقم 2482، قال الملا علي القاري في شرح مشكاة المصابيح (5/1983): (يعني بيع الأراضي والدور، وصرف ثمنها إلى المنقولات غير مستحب.. فالأولى أن لا تباع، وإن باعها فالأولى صرف ثمنها إلى أرض، أو دار)

([21]) يراجع: القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، مصطلحات (أجر)، (كراء)، (ربح)، (ثمر) والموسوعة الفقهية الكويتية (31/267) مصطلح (غلة).

([22]) سورة البقرة / الآية 22

([23]) سورة الأنعام / الآية 141

([24]) قال الكاساني في بدائع الصنائع ط. مؤسسة التأريخ العربي / لبنان 1421ه (2/77): ( وقال عامة مشايخنا: إنها على سبيل التراخي) . ويراجع المحيط البراهاني ط. إدارة القرآن، والمجلس العلمي 1424ه (3/154)

([25]) الفروع (2/542) وافنصاف (7/139)

آخر الفتاوى