بعض الفتاوى في التأمين:

كثر التساؤل حول حكم التأمين التجاري والتأمين التكافلي، أو التعاوني أو الإسلامي، أفيدونا برأي حاسم أثابكم الله تعالى:

الجواب هذا سؤال كبير، ونحاول اختصار جوابه فيما يأتي:

أولاً ـ التأمين كفكرة ونظرية:

 أما التأمين كفكرة ونظرية فمقبول لأنه كما يقول الأستاذ السنهوري: (ليس إلاّ تعاونًا منظمًا بين مجموعة من الناس لدفع الأخطار وتفتيتها بحيث إذا تعرض بعضهم لخطر تعاون الجميع في مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحقيق بمن نزل الخطر منهم لولا هذا التعاون)[1].

 يقول الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا: (أن المفهوم الماثل في أذهان علماء القانون لنظام التأمين أنه نظام تعاوني تضامني يؤدي إلى تفتيت أجزاء المخاطر والمصائب وتوزيعها على مجموع المستأمنين عن طريق التعويض الذي يدفع للمصاب من المال المجموع من حصيلة أقساطهم بدلاً من أن يبقى الضرر على عاتق المصاب وحده، ويقولون إن الإسلام في جميع تشريعاته المتعلقة بتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية يهدف إلى إقامة مجتمع على أساس التعاون والتكافل المطلق في الحقوق والواجبات[2].

 وعلى هذا الأساس فهذه فكرة لا شك أنها مقبولة شرعًا ومتفقة مع مقاصد الشريعة في التعاون على البر والاحسان والتقوى ولا خلاف في مشروعية ذلك بل إنه مطلب إسلامي تقوم عليه معظم أحكام الشريعة حيث دعت إلى التعاون والتكافل الاجتماعي والتضامني والأخوة والإيثار بل إن الإسلام لم يقف عند حدود الدعوة الخلقية، والحث والتشجيع وإنما فرض عدة فرائض تنصب على هذا المصب التعاوني، التكافلي مثل نظام الزكاة وجعل الفقراء والغارمين وابن السبيل ضمن مصارف الزكاة ومثل نظام النفقة للأقارب ونظام الصدقة الزائدة على الزكاة عند الضرورة والحاجة ومثل نظام العواقل، إضافة إلى واجب الدولة في توفير الحياة الكريمة للأفراد، وتحمل خزينتها (بيت المال) لدفع الديون إذا مات صاحبها ولم يترك لأدائها مالاً وتحملها تحقيق التكافل الاجتماعي.

الجانب النظري، والجانب التطبيقي:

 إن نظام التأمين يتضمن جانبين: أحدهما نظري يعتبر أساسًا له، والثاني: الجانب التطبيقي المتمثل في العقود التي نظمتها القوانين الوضعية وطبقت في العالم الغربي بل في عالمنا الإسلامي.

فالجانب الأول يقوم على عدة أسس فنية وهي:

أ ـ التعاون حيث لا يستطيع الإنسان أن يواجه بمفرده الكوارث والمصائب والخسائر الكبيرة فينظم إلى مجموعة يشتركون في تحمل نتائجها فتتوزع نتائج تلك الأخطار عليهم وبذلك يذوب أثرها على المصاب، ولهذا التعاون في التأمين صورتان:

1. التعاون الشخصي الذي يتم بين أشخاص.

2. التعاون المادي الذي لا يكون أساسًا بين الأشخاص وإنما بين مخاطر متعددة وهذا ما تقوم به الشركات الكبرى التي تقوم بنشاط معقد كشركات النقل والبترول والمناجم.

ب ـ المقاصة بين المخاطر من خلال توزيع دقيق لعبء المخاطر على مجموع المؤمن لهم عن طريق دفع كل منهم قسطًا معينًا حيث تجري المقاصة بين ما تحقق من المخاطر وما لم يتحقق حين توزع نتائجها على المؤمن لهم جميعًا ولذلك لا بدّ من وجود قدر من التشابه بين تلك المخاطر من حيث طبيعة المخاطر كالحريق مثلاً فلا يضم إليه الوفاة بل يقسم حتى إخطار التأمين على الحياة على أقسام فرعية منضبطة كالتأمين لحال الحياة، والتأمين على الوفاة،ومن حيث موضوع المخاطر ومحلها ومن قيمة المخاطر ومدة التأمين.

ج ـ عوامل الإحصاء من خلال الاعتماد على قانون الأعداد الكبيرة الذي يؤدي إلى نتيجة متقاربة للواقع وكذلك الاعتماد على صفات المؤمن ضده من حيث الزمن المختلف وانتشار الخطر واتساعه[3].

 فهذه الأسس الفنية كلها مقبولة شرعًا، بل هي من مقاصد الشريعة الغراء وكذلك الأمر لو نظرنا إلى فوائد التأمين ومنافعه التي تتحقق:

للأفراد: حيث يجلب لهم الأمان للفرد، حيث يطمئن على أن الأخطار التي تقع عليه في المستقبل أن يتحملها وحده وإنما تتفتت من خلال الشركة وحينئذٍ يقدم على المشروعات الاقتصادية المفيدة بشيء من الجرأة والثقة والاطمئنان.

للمجتمع: فإن التأمين يؤدي إلى ازدهار المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا:

1. حيث لا يصبح الفرد عالة على المجتمع في حالة اصابته وإنما يجد في مبلغ التأمين الذي يعطى له (في التأمين على الأشخاص) موردًا لرزقه.

2. وكذلك لا تفلس الشركة ان أصابت تجارتها أو أعمالها أو مبانيها بجوائح بل تكون في مأمن من الحفاظ على رؤوس أموالها[4].

 وهذه المنافع أيضًا مشروعة في الإسلام بل هو يدعو إلى تحقيقها بكل الوسائل المشروعة فهو: رحمة كله، خير كله، مصلحة كله، منفعة جميعه.

الجانب التطبيقي:

 وإنما الاشكال في الجانب التطبيقي المتمثل في صياغة عقود التامين على ضوء ما صاغها الفكر الرأسمالي اليهودي حيث لم ينظر فيها بالتأكيد، إلى الضوابط الشرعية بل ولا إلى الضوابط الدينية بصورة عامة وإنما كان همّ الشركات التي تبنت هذه الفكرة هي تحقيق الربح بأية وسيلة ممكنة وهذا يدفعنا إلى قبول فكرة وتغيير تلك العقود والوسائل إلى العقود التي تنعدم فيها المخالفات الشرعية وهذا ما تتجه إلى شركات التأمين الإسلامية.

ثانيًا ـ حكم التأمين التعاوني البسيط:

وهو تعاون مجموعة من الأشخاص ممن يتعرضون لنوع من المخاطر على تعويض الخسارة التي قد تصيب أحدهم، عن طريق اكتتابهم بمبالغ نقدية ليؤدي منها التعويض لأي مكتتب منهم عندما يقع الخطر المؤمن منه)[5]

وهذا النوع من التأمين البسيط مشروع بل هو داخل في المأمور به من التعاون على البر والتقوى، يقول الأستاذ أبو زهرة: (فأما الطريقة الأولى (التأمين التعاوني) فهي جائزة شرعًا بلا شبهة مهما كان نوع الخطر المؤمن منه) وهكذا قال الآخرون، بل صدر قرار بجوازها من مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة عام 1385هـ ـ 1965م، ومن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي عام 1392هـ ـ 1972.

ثالثًا ـ حكم التأمين التجاري:

فقد صدرت قرارات من المجامع الفقهية بحرمته، مثل مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وهيئة كبار العلماء بالسعودية.

 ونحن هنا نذكر قرار المجمع الفقهي الإسلامي لأهميته، وهو قرار صادر بمكة المكرمة في 10-17 شعبان 1398هـ، وهذا نصه: (أما بعد….. فإن مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعدما اطلع أيضًا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدنية الرياض بتأريخ 4/4/1397هـ. من التحريم للتأمين بأنواعه.

 وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال.

 كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلاً من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفًا وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة.

تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين:

 بناءً على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شبعان 1398هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ محمد بن عبدالله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله.

 وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلي:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فإن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي نظر في موضوع التأمين بأنواعه بعدما ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضًا على ما قرر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتأريخ 4/4/1397هـ . بقرار رقم 55 من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه.

 وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية:

الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع ان يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطًا او قسطين، ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلاً فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ النسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر.

الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيه، ومن الغنم بلا مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارًا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والآية بعدها.

الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسيء فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والاجماع.

الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلاً منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلاّ ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان وقدر حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلاّ في خف او حافر أو نصل) وليس التأمين منذ لك ولا شبيهًا به فكان محرمًا.

الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ ان تكون تجارة عن تراض منكم).

السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن فكان حرامًا.

 وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقًا أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي:

أ ـ الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.

ب ـ الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاَ هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها.

ج ـ الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طريق كسب الطيبات أكثر أضعافًا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعًا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.

د ـ لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم، وتداعيهم وإخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد لمقصود منه من الأفعال والأقوال، فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها.

هـ ـ الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح، فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وإن رأس مال المضاربة يستحقه ورقة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظامًا مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلاّ قسطًا واحدًا، وقد لا يستحقون شيئًا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وإن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبًا مئوية مثلاً بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلاّ مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد.

و ـ قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام، والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.

ز ـ قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلاً من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبًا، أو من مكارم الخلاق، وبخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي، فلا يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر.

ح ـ قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارض لا أيضًا، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولاً الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعًا غير مقصود إليه.

ط ـ قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.

ي ـ قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضًا لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولاً عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة، لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًا التزم به من حكومات مسؤولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاونًا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.

ك ـ قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهم وبين القاتل خطأ أو شبه عمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون واسداء المعروف واو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.

ل ـ قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أن الأمان ليس محلاً للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلاّ لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.

م ـ قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضًا، فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر.

ن ـ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح، والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس) انتهى قرار المجمع.

الخلاصة:

 وبهذا العرض تبين لنا أن التأمين التجاري بصورته الراهنة غير جائز شرعًا، وأن عقده باطل، لأنه يقوم على الغرر ونحوه من المخالفات الشرعية.

 هذا وقد عرضت عقود التأمين على المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي 1403هـ ـ 1983م والمؤتمر الثالث له، لكن المشاركين اختلفوا فيها، ولم يصلوا إلى رأي واحد، كما عقدت ندوة التشريع الإسلامي بدعوة من الجامعة الليبية 1392هـ ـ 1972م انتهى فيها المشاركون إلى الموافقة مؤقتًا على عقود التأمين عدا التأمين على الحياة، فإنه غير جائز شرعًا، واما ما عداه فاختلفوا فيه وقبلوه بصفة مؤقتة، وفي عام 1396هـ ـ 1976م عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة، اشترك عدد كبير من العلماء، فبحث فيه موضوع التأمين، وانتهى المؤتمر إلى: (ان التامين التجاري الذي تمارسه شركات التأمين التجارية في هذا العصر لا يحقق الصيغة الشرعية للتعاون والتضامن، لأنه لم تتوافر فيه الشروط الشرعية التي تقتضي حله).

 لذلك (يقترح المؤتمر تأليف لجنة من ذوي الاختصاص من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد الإسلامي لاقتراح صيغة للتأمين خالية من الربا والضرر يحقق التعاون المنشود بالطريقة الشرعية بدلاً من التأمين التجاري).

 وقد ذكرنا قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي فقد قرر في دورته الأولى في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بالإجماع ـ ما عدا الشيخ مصطفى الزرقا ـ تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أم البضائع التجارية أو غير ذلك وجواز التأمين التعاوني تأكيدًا لما جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بالرياض 4/4/1397هـ قرار رقم 51، 55 من اباحة التأمين التعاوني وتحريم التأمين التجاري [6].

وكان مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف قد بحث موضوع التأمين في مؤتمره الثاني عام 1385هـ وقرر بخصوصه ما يلي:

  1. التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المستأمنين لتؤدى لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات، وخدمات أمر مشروع، وهو من التعاون على البر.
  2. نظام المعاشات الحكومي، وما يشبهه من نظام الضمان الجماعي المتبع في بعض الدول، ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى كل هذا من الأعمال الجائزة.
  3. أما أنواع التأمينات التي تقوم بها الشركات أيا كان وضعها مثل التأمين الخاص بمسؤولية المستأمن….فقد قرر المجمع الاستمرار في دراستها بواسطة لجنة جامعة لعلماء الشريعة وخبراء اقتصاديين….).

وكـذلك الأمـــر فـي المـؤتمر الثـالث حيث قـرر مواصـلة الدراســـة لـها.

 وأما مجمع الفقه الإسلامي الدولي فقد نص قراره رقم 9(9/2) على: (أن عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعًا)[7].

رابعًا ـ حكم التأمين التعاوني، أو التأمين التكافلي الاسلامي:

وقد صدر بجوازه قرارات من جميع المجامع الفقهية المعتبرة، ومن هيئة كبار العلماء بالسعودية في 4/4/11397هـ نذكره بنصه:

الأول: أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق اسهام أشخاص بمبالغ نقدية لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطاء بينهم والتعاون على تحمل الضرر.

الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسيئة فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.

الثالث: أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع، لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري، فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.

الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعًا أو مقابل أجر معين.

ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تامين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:

أولاً: الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسؤولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتي دور الدولة إلاّ كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به كدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها.

ثانيًا: الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذي ومسؤولية إدارة المشروع.

ثالثًا: تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية فلا شك أن مشاركة الأهالي في الادارة تجعلهم أكثر حرصًا ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في انجاح التأمين إذا أن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل كما أن وقوعها قد يحملهم أقساط أكبر في المستقبل.

رابعًا: أن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة او منحة من الدولة للمستفيدين منه بل مشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية وهذا موقف أكثر ايجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسؤولية.

ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني على الأسس الآتية:

الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن هناك قسم للتأمين الصحي، وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة….الخ، أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين، وآخر للتجار، وثالث للطلبة، ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين…الخ.

الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة والبعد عن الأساليب المعقدة.

الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة.

الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا اعضاء في المجلس ليساعد ذلك على اشراف الحكومة عليها واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل.

الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة.

 ويؤيد المجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن [8].


([1]) د. السنهوري: المرجع السابق (7/2/1086 ـ 1087)

([2]) الأستاذ مصطفى الزرقا في بحثه بعنوان: نظام التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، والمنشور في كتاب: الاقتصاد الإسلامي ط. 1400هـ ص 379، وبحثه المقدم إلى مهرجان الإمام ابن تيمية الذي عقده المجلس الأعلى للفنون والآداب عام 1961 ص 385 ود. حسين حامد: حكم الشريعة الإسلامية في عقود التأمين ط.دار الاعتصام ص 16

([3]) المراجع السابقة وبالأخص د. أحمد شرف الدين: المرجع السابق ص 65 ـ 74

([4]) يراجع في تفصيل ذلك: د. عبدالودود يحيى: التامين على الحياة ط.القاهرة 1964 ص 42 والمراجع السابقة

([5]) يراجع: الأستاذ الزرقا: نظام التأمين ط. مؤسسة الرسالة بعمان، ص 42 – 43 ود. احمد سالم ملحم: التأمين التعاوني الإسلامي وتطبيقاته في شركة التأمين الإسلامية، الأردن ط 1420هـ ص 95، والمراجع السابقة

([6]) يراجع: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي من الدورة الأولى إلى الخامسة عشرة، القرار الخامس من الدورة الأولى ص 31، هذا وقد ألف في الفروق بين هذين النوعين عدة كتب منها: كتاب د. غريب الجمال: التأمين التجاري والبديل الإسلامي ط. دار الاعتصام ص 250 وما بعدها، وراجع لهذه القرارات أ.د. علي السالوس: المعاملات المالية المعاصرة ط. مكتبة الفلاح ص 378 – 402

([7]) مجلة المجمع: ع2 ج 2 ص 545

([8]) نص قرار مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة، ويراجع للتفصيل: المراجع السابقة وخاصة د. محمد الزغبي: عقود التأمين “رسالة دكتوراه” بالقاهرة 1402هـ ص 164، و د. غريب الجمال: التأمين التجاري، والبديل الإسلامي ط. دار الاعتصام ص 62

آخر الفتاوى