الإسلام دين الرحمة حقًا وصدقًا، الرحمة في تشريعاته وأحكامه، والرحمة في التعامل والتعاقد والتقاضي، والتبادل.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن ربط بين معظم أركان الإسلام وبين إدخال السرور في قلوب المستضعفين والفقراء والمساكين، فالزكاة – وهي الركن الثالث- شرعت للتخفيف من الفقر والبطالة، أو القضاء عليه والمساهمة في إعادة التوزيع العادل، وشرع الله تعالى في الحج الهدْي، والفدية والكفارات والأضاحي حتى تكون عونًا للفقراء على قضاء حوائجهم والخروج من دائرة الفقر إلى دائرة حد الكفاف، أو حد الكفاية.
وهذا أكبر دليل على العناية القصوى بالفقراء حيث يستثمر العبادات لإدخال السرور في قلوبهم، ورفع حاجتهم، ومشاركتهم فرحة الأعياد مع الأغنياء والموسرين ليتحقق الجسد الواحد بالتعاون والتكافل.
وقد فرض الله تعالى زكاة الفطر على جميع المسلمين أغنيائهم وفقرائهم، صغيرهم وكبيرهم ما داموا قادرين على إخراجها، وذلك لحديث ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر: صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل حرّ، او عبد ذكر أو أنثى من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري مع فتح الباري (3/367) ومسلم (2/677) وأصحاب السنن، وهذا محل إجماع.
وورد بيان حكمتها في حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود بإسناد حسن في سننه الحديث 1609 والدارقطني في سننه (2/327) والحاكم في المستدرك، وقال الحافظ المنذري إسناده صحيح أو حسن، وصححه ابن الملقن في شرح البخاري (10/636) حيث قال ابن عباس: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، مَنْ أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَنْ أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات).
إذن في ضوء هذا الحديث الثابت بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحكمة من زكاة الفطر أمران، هما:
الأمر الأول: أنها تطهير وتزكية للصائم من الكلام اللغو، والرفث أي الكلام الذي يخرج عن حدّه، وروى النووي في المجموع عن وكيع بن الجرّاح قال: (زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدتي السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة).
وقد بيّن الله تعالى الحكمة من جميع أنواع الزكاة بأنها تطهير وتزكية فقال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة: 103] أي تطهير نفس المزكي من الجشع والطمع، ولنفس المُعْطى له من الحقد والحسد وكراهية الأغنياء، كما أنه تنمية شاملة.
الأمر الثاني: سدّ لحاجة الفقراء في ذلك اليوم الذي يفرح فيه المسلمون، ويتوسع فيه الأغنياء، فبذلك يشاركهم الفقراء حيث يعطي لهم من الأموال ما يغنيهم.
وبالإضافة إلى هاتين الحكمتين فإن هناك حكمتين أخريين، هما:
أ- إغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد، حيث ورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/175) وفي سنده أبو معشر نجيح المدني، وقد تكلم فيه، ولذلك ضعفوه، ولكن قال الحافظ ابن حجر في الدراية (1/274) بعد أن قال: إسناده ضعيف، قال: أصله في الصحيحين عن ابن عمر.
ب- أداء شكر الله تعالى على نعمة الصحة، والحياة، وبلوغ رمضان كله.
كيف تؤدى زكاة الفطر:
يؤديها الشخص القادر على الأداء عن نفسه، وعن زوجته وأولاده الصغار، أما أولاده الكبار فإن كانوا أغنياء فوجب عليهم أن يدفعوها، وإن كانوا فقراء فيدفع عنهم على الراجح من أقوال أهل العلم، لحديث ابن عمر: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحرّ، والعبد ممن تمونون) أي تنفقون عليهم، وهذا الحديث بهذا اللفظ ضعفه الكثيرون، ولكن الألباني في ارواء الغليل (839) حسنه بلفظ: (أدّوا صدقة الفطر عما تُموّنون).
مقدار الزكاة:
حدد الرسول صلى الله عليم وسلم صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير كما في حديث ابن عمر في الصحيحين، وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: (كنا نخرج صدقة الفطر صاعًا من طعام، او صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب) رواه البخاري 1056، وفي حديث آخر للبخاري أيضًا 1058 بلفظ: (كنا نخرج في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام…الخ) وفي رواية ثالثة 1510 بلفظ (كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام والأقط والتمر)، وقال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير، والزبيب.
وقد اتفق الفقهاء على أن المتصدق في زكاة الفطر لا يكفيه نصف صاع من هذه الأصناف الأربعة المذكورة في حديث أبي سعيد الخدري، وكذلك ذهب جمهورهم (المالكية والشافعية والحنابلة) إلى أنه لا يكفي أيضًا نصف صاع من القمح ونحوه، ولكن الحنفية أجازوا دفع نصف صاع من القمح، وذلك لما قال أبو سعيد الخدري: (إن معاوية قدم حاجًا أو معتمرًا، فكلم الناس على المنبر، وكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدّين من سمراء الشام (يعني القمح) تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك، أما أنا فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشت كما كنت أخرجه) رواه البخاري مع الفتح (3/372) ومسلم (2/678) الحديث 985.
ورأي معاوية رضي الله عنه مستند إلى رأي الخليفة الراشد عمر الفارق رضي الله عنه، فقد روى مسلم في التمييز الحديث 181 وأبو داود في سننه 1614 بسند حسن عن ابن عمر قال: (كان الناس يخرجون صدقة الفكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من شعير، أو تمر، أو سلت، أو زبيب، قال عبدالله فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء). قال ابن الهمام في شرح فتح القدير (2/300): (أعل سنده بابن أبي رواد، تكلم فيه ابن حبان، ووثقه غير واحد، والموثقون له أعرف) ولذلك سكت عنه أبو داود وبالتالي فهو حسن كما عبر عن منهجه، لكن الألباني ضعفه في: ضعيف أبي داود الحديث 1614 وقال: (وذكر عمر وهم، والصواب: معاوية).
مقدار الصاع في عصرنا الحاضر:
يساوي الصاع في عصرنا الحاضر بالغرامات حوالي اثنين كيلو، وربع كيلو تقريبًا، فلا يزيد على هذا المقدار، ولكنه يختلف من نوع إلى آخر حسب وزنه، لذلك فدفع اثنين كليو وربع الكيلو من الأصناف التي ذكرتها الأحاديث السابقة أو من الأرز جائز شرعًا وكاف بدون شك بإذن الله تعالى.
وهو يساوي اليوم 15 – 20 ريالاً قطريًا، فمن دفع 15 ريالاً فقد كفته، ولكن من يدفع 20 ريالاً فهو الأحوط. وكل بلد يقوّم هذه الكمية (اثنين كيلو، وربع كيلو) من غالب قوت البلد، وعملته السائدة.
مكان الدفع، وجواز نقله للحاجة:
مكان الدفع بالنسبة لصدقة الفطر هو البلد الذي يعيش فيه المسلم، وبالنسبة لزكاة الأموال هو مكانها، ويجوز نقله في الحالات الآتية، كما ورد بذلك فتوى من الهيئة العالمية لقضايا الزكاة المعاصرة، وهي:
أولاً: الأصل في صرف الزكاة أن توزع في موضع الأموال المزكاة – لا موضع المزكي – ويجوز نقل الزكاة عن موضعها لمصلحة شرعية راجحة.
ومن وجوه المصلحة للنقل:
أ – نقلها إلى مواطن الجهاد في سبيل الله.
ب – نقلها إلى المؤسسات الدعوية أو التعليمية أو الصحية التي تستحق الصرف عليها من أحد المصارف الثمانية للزكاة.
ج – نقلها إلى مناطق المجاعات والكوارث التي تصيب بعض المسلمين في العالم.
د – نقلها إلى أقرباء المزكي المستحقين للزكاة.
ثانيًا: نقل الزكاة إلى غير موضعها في غير الحالات السابقة لا يمنع إجزاءها عنه ولكن مع الكراهة بشرط أن تعطى إلى من يستحق الزكاة من أحد المصارف الثمانية.
ثالثًا: موطن الزكاة هو البلد وما يقربه من القرى وما يتبعه من مناطق مما هو دون مسافة القصر (82 كم تقريبا) لأنه في حكم بلد واحد.
رابعًا: موضع الزكاة بالنسبة لزكاة الفطر هو موضع من يؤديها لأنها زكاة الأبدان.
خامسًا: مما يسوغ من التصرفات في حالات النقل:
أ – تعجيل إخراج زكاة المال عن نهاية الحول بمدة يمكن فيها وصولها إلى مستحقيها عند تمام الحول إذا توافرت شروط وجوب الزكاة، ولا تقدم زكاة الفطر على أول رمضان.
ب – تأخير إخراج الزكاة للمدة التي يقتضيها النقل.
وقت إخراجها:
الغرض والحكمة من هذه الصدقة أن تحقق أهداف الفقير في تحقيق مشاركته مع الأغنياء في فرح يوم العيد، ولذلك كان ابن عمر يؤديها قبل العيد بيوم أو بيومين، حيث روى أبو داود بسند صحيح (الحديث1610): (أن ابن عمر كان يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين) وقال الألباني في صحيح أبي دواد: (حديث صحيح).
ومن المعلوم أن ابن عمر هو من أشد الصحابة تمسكًا بالسنة واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كان يعطي صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو بيومين حتى يتمكن الفقير من الاستفادة منها لأنه لو أعطى له في نفس اليوم قد لا يتمكن من الاستفادة منها الاستفادة المثلى.
ثم اختلف الفقهاء فذهب جماعة من الفقهاء، منهم ابن عمر، والمالكية والحنابلة، إلى جواز تقديم صدقة الفطر بيوم أو بيومين (يراجع: بلغة السالك (1/201) وكشاف القناع(1/471)، وذهب الشافعية إلى أن وقت أدائها المستحب هو قبل صلاة العيد، ولكنه يجوز تعجيلها إلى أول شهر رمضان إلى آخره على المذهب يراجع روضة الطالبين (2/292)، وذهب الحنفية إلى أن وقت وجوب أداء زكاة الفطر موسع، فهي تجب في مطلق الوقت، وإنما يتعين بتعيينه، ففي أي وقت أدى كان مؤديًا، لا قاضيًا غير أن المستحب إخراجها قبل الذهاب إلى المصلى يراجع روضة الطالبين (2/292)، لكن جمهور الفقهاء بمن فيهم الحسن بن زياد من الحنفية ذهبوا إلى أن وقت الأداء ينتهي بنهاية يوم العيد. يراجع المصادر الفقهية السابقة، والموسوعة الفقهية الكويتية.
وأما آخر وقت دفع صدقة الفطر أداءً، فقد قال الشافعية إلى أن أداءها في يوم العيد جائز مع الكراهة، وعند جماعة تصبح قضاءً بصلاة العيد، واتفق الفقهاء على أن زكاة الفطر لا تسقط بخروج وقتها، لأنها وجبت في ذمته لمن هي له وهم مستحقوها، فهي دين لهم لا يسقط إلاّ بالأداء، لأنها حق للعبد، أما حق الله تعالى في التأخير عن وقتها فلا يجبر إلاّ بالاستغفار والتوبة. يراجع المصادر الفقهية السابقة، والموسوعة الفقهية الكويتية.
حكم إخراج زكاة الفطر بالقيمة:
فقد اختلف فيه الفقهاء قديمًا وحديثًا على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: عدم جواز دفع القيمة مطلقًا، بل يجب دفع صاع من غالب قوت البلد، او نصف صاع من القمح عند جماعة منهم، وهذا هو المذهب المعتمد عند المالكية، والشافعية، والحنابلة على المذهب. يراجع: بدائع الصنائع (2/205) طد. دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي2000م، وحاشية ابن عابدين (2/79) والشرح الكبير مع الدسوقي (1/805) ونهاية المطلب (3/420) والروضة (2/301) ومغني المحتاج (3/116) والفروع (2/540).
وهو رأي الظاهرية أيضًا، بل ذكر بأنه لا يصح إلاّ التمر والشعير. يراجع المحلى لابن حزم (6/118).
المذهب الثاني: جواز دفع القيمة مطلقًا في جميع الأحوال، وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، واختاره الفقيه المحدث أبو جعفر الطحاوي وهو المعتمد عند الحنفية، وهو مروي عن سفيان الثوري، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وغيرهم، ورواية عن أحمد للحاجة أو مصلحة راجحة، وهو رأي معظم المعاصرين اليوم، والهيئة العالمية لقضايا الزكاة المعاصرة، وشيخ الأزهر السابق الشيخ محمود شلتوت والشيخ القرضاوي. يراجع المصادر الفقهية السابقة
فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن قرة: قال: (جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر نصف صاع – أي من بُرّ – عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم)، وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطى الدرهم في صدقة الفطر، وأبو اسحاق قال: (أدركتهم وهم يعطون في صدقة رضمان الدراهم بقيمة الطعام. يراجع: مصنف أبي شيبة (3/174)
وذكر الإمام السرخسي: (أن الفقيه أبا جعفر رحمه الله يقول: أداء القيمة أفضل، لأنه أقرب إلى منفعة الفقير، فإنه يشتري بها ما يحتاج إليه، والتنصيص على الحنطة والشعير كان، لأن البياعات في ذلك الوقت بالمدينة يكون بها، فأما في ديارنا البياعات تجري بالنقود، وهي أعز الأموال فالأداء بها أفضل)، بل إنه أسند هذا القول السابق إلى أبي يوسف فقال: (والدراهم أولى مت الدقيق، لأنها أدفع لحاجة الفقير، وأعجل به، كما أن الدقيق أفضل من القمح). يراجع: المبسوط (2/149).
المذهب الثالث: هو أن الأصل دفع صاع من الطعام، ولكن يجوز للمصلحة الراجحة، او الحاجة دفع القيمة، أو بعبارة أخرى أن يكون النقد أنفع للفقراء من الطعام.
وهذا رأي أبي اسحاق بن راهويه وأبي ثور، فقد جاء في موسوعة فقه سفيان الثوري: (لو أخرج قيمتها مما هو أنفع للفقير جاز، لأن المقصد منها إغناء الفقراء عن المسألة، وسدّ حاجتهم في هذا اليوم) وهذا هو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية. يراجع: موسوعة فقه سفيان الثوري ص 473
أدلة المذاهب الفقهية:
أولاً – استدلّ المانعون من دفع القيمة في زكاة الفطر بما يأتي:
1- الأحاديث الصحيحة الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر… الخ، حيث لم يذكر القيمة وأنها لو جازت لبيّنها، وبالتالي فإنه من يدفع القيمة لم ينفذ ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم به.
2- إن الزكاة عبادة وقربة إلى الله، فالأصل والواجب فيها الاتباع دون الابتداع، وبعبارة فقهية فهي تعبدية لا تخضع للقياس والاجتهاد.
تلك هي أهم الأدلة التي استدل بها المانعون قديمًا وحديثًا، ولكن يمكن أن يناقش ذلك بما يأتي:
أ- أن ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض صاعًا من تمر…الخ، هو تعبير الصحابي عما فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم وليس قوله صلى الله عليه وسلم بصيغة تدل على منع ما سواه، حيث لا يوجد نص صحيح صريح ثابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على حصر هذه الفريضة في صاع مما ذكر في جميع الأحاديث الواردة في هذا الشأن، وبالتالي فلا تدل على منع ما سواه، وأكبر دليل على ذلك هو أن جمهور المانعين يجيزون دفع صاع من القمح زكاة فطر، وهو لم يرد في الأحاديث الصحيحة الصريحة بالاتفاق، كما أن جمهورهم أيضًا يجيزون دفع صاع ما لأرز صدقة فطر، وهو لم يرد في أي حديث لا صحيح ولا صريح.
فإذا كان القياس هنا صحيحًا ومقبولاً فما الفرق بينه وبين الاجتهاد بجواز دفع القيمة بل إن دفع قيمة التمر، أو الشعير الوارد في النص أقرب من إلحاق أنواع أخرى من حبوب لم ترد في نصوص الشريعة.
ب- إن الزكاة بصورة عامة، وزكاة الفطر بصورة خاصة ليست من الشعائر التعبدية المحضة، وإنما من العبادات التي تدخل في المعقولة المعاني التي يمكن الاجتهاد فيها، وقد رأينا أن جمهور المانعين اجتهدوا وقاسوا فيها بالنسبة لدفع القمح، أو الأرز، أو نحوهما ما دام يمثل غالب قوت البلد.
وبذلك قلب دليلهم عليهم فأصبح حجة عليهم، ولم يلتزموا بكونها تعبدية محضة لا قياس فيها، فإذا كان هذا القياس المجتهد فيه جائزًا فلماذا لا يكون الاجتهاد بدفع القيمة جائزًا؟
ج- ثم إن ما ذكر في حديث ابن عمر من التمر والشعير والأقط كان من أنواع طعام ذلك العصر بدليل أنه لما دخلت أنواع أخرى اعتمدت، كما قال أبو سعيد الخدري في شأن القمح.
ثانيًا – واستدل المجيزون لدفع قيمة صدقة الفطر بما يأتي:
1- الأصل في صدقة الفطر، ومقاصد الشريعة منها إغناء الفقراء في يوم العيد، وإدخال السرور والفرح في قلوبهم من خلال توفير احتياجاتهم الأساسية، وهذا بلا شك إنما يتحقق في عصرنا الحاضر في الغالب بدفع النقود إليهم ليشتروا بها حاجياتهم الأساسية التي لا تنحصر في التمر، والقمح، والشعير، والأرز ونحوها.
وهذا ما فهمه الصحابة الكرام حيث لم يكتفوا بما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره من التمر والشعير، والأقط بل جعلوها قمحًا، بل إن معظمهم جعل نصف صاع منه يعدل صاعًا من تمر أو شعير – كما سبق-
2- إن من أقوى الأدلة: ما رآه معاوية رضي الله عنه وعرضه على الصحابة الكرام في حجته أو عمرته، من أن نصف صاع من سمراء الشام (القمح) يعدل صاعًا من التمر، ووافقه الصحابة كما قال الصحابي الجلي أبو سعيد الخدري، ما عداه.
فهذا الاجتماع لجمهورهم دليل قوي على جواز دفع القيمة لأن معادلة نصف صاع من القمح بصاع لا تتحقق إلاّ من خلال القيمة، وهذه المعادلة مروية عن عمر رضي الله عنه – كما سبق-.
3- ثبت في نصوص شرعية صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءَهُ الراشدين قبلوا القيمة في زكاة بعض الأعيان في حالات متعددة، مثل قبول الدراهم أو الدنانير مكان الفارق في العمر المطلوب في زكاة الإبل، حيث قدّر الجبران بشاتين أو عشرين درهمًا.
4- كما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن لجمع الصدقات المفروضة قال لهم: (ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس أسهل عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار) رواه البخاري معلقًا في باب العرض في الزكاة، وقال طاوس: (قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم….) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/113) والمحلى (6/25) قال الحافظ ابن حجر في تعليق التعليق (3/13) إسناده صحيح إلى طاوس، لكنه لم يسمع من معاذ فهو منقطع، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/174).
ولهم أدلة أخرى لا يسع المجال لذكرها.
ثالثًا – وأما أدلة المذهب الثالث، فهي نفس أدلة المذهب الثاني (المجيزين) مع التقييد بالمصلحة الراجحة، وبما هو أنفع للفقراء، وبالتالي فهو راجع إليه مع هذا القيد المذكور، وهو الراجح.
الرأي الراجح:
بعد استعراض ما أمكن من الأدلة، والمناقشات العلمية الكثيرة حول هذه المسألة التي لم يسعفنا الوقت لسردها كلها، يتبيّن لي رجحان القول الثاني مع ضبطه بما قاله أصحاب القول الثالث من أن يكون دفع القيمة أنفع للفقراء، وبالتالي فإذا كان دفع الطعام والحبوب أنفع لهم فيبقى هو الأصل والله أعلم، في ضوء ما يأتي:
أولاً – أنه لا خلاف بين الفقهاء أبدًا في جواز الأخذ بظاهر هذه النصوص ودفع صاع من غالب قوت البلد أو مما ذكره الحديث الشريف (حسب التفصيل السابق).
ثانيًا – بما أن الخلاف في دفع القيمة في صدقة الفطر خلاف قوي جدًا، فلا يجوز الاعتراض عليه، ولا إبطال من يأخذ بهذا الرأي ولا التشنيع على أحد الرأيين، فهو خلاف مشروع يجوز لكل مسلم أن يستفتي قلبه في الأخذ برأي المانعين او المجوزين، ولا يجوز للوعاظ وخطباء المساجد إثارة هذا الموضوع في الوعظ والخطب حتى لا تحدث مشكلة أو بلبلة بين المسلمين، فالمنابر ليست مكانًا لإثارة النزاعات، وهذا هو منهج علمائنا الربانيين من القبول بالخلاف المشروع واحترامه حتى ولو كان مخالفًا لرأي الآخر.
ثالثًا- إن هذا الدين يقوم على اليسر ورفع الحرج في الدفع والأخذ والعطاء وفي الدعوة والفتاوى، وبالتالي فإن دفع صدقة الفطر نقدًا أيسر للطرفين من دفع التمور، والشعير، والقمح ونحوها، وأن هناك حرجًا وعسرًا في جميع صدقات الفطر من التمور أو القمح أو الأرز في المدن الكبيرة في عصرنا الحاضر، بالإضافة إلى أننا لو أعطيناهم اليوم للفقراء لتوجه معظمهم إلى بيعها بثمن قليل لسد حاجاته الأخرى، ومن جانب آخر نرى أن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الزكاة وغيرها يقوم على التيسير على الناس، فمن لم يكن لديه الأصل الواجب في الزكاة يأخذ منه بدله، أو الفارق كما في زكاة الابل.
رابعًا – أن مقاصد الشريعة في صدقة الفطر واضحة وهي إغناء الفقير عن حاجياته ومما لا شك فيه أن الاحتياجات اليوم لا تنحصر في أكل التمر، والخبز من القمح، أو الرز فهي أكثر ومتنوعة، ولذلك فالنقود تحقق هذه الأغراض بصورة أفضل، إذن فهي جديرة بقبولها إن لم يكن دفعها أفضل، ومن المعلوم أن الشريعة مبنية على رعاية المصالح بجميع أنواعها.
خامسًا – أن هذا القول ليس للحنفية فقط على الرغم من أن هذا يكفي وزيادة، بل هو رأي جماعة من الصحابة والتابعين، فجميع الصحابة أو التابعين الذين قالوا بجواز دفع نصف صاع من القمح بدل صاع من شعير أو تمر، لا يتأتّى إلاّ من خلال القول بالقيمة والتقويم بالقيمة، وبالتالي فهذا رأي عمر، وابن عباس، ومعاوية، وجميع من أخذوا برأيه عندما عرضه عليهم في حجته أو عمرته.
والقول بدفع القيمة صراحة ثابت عن عمر بن عبد العزيز، وعن الحسن البصري، وأبي اسحاق، والثوري، وهو مذهب الزيدية كما في البحر الزخار (3/202) وبقية أهل البيت كما في السبيل الجرار (2/86) وهو قول جماعة من المالكية كان حبيب وابن أبي جازم، وابن دينار، وابن وهب.
وقد ترجم الإمام الحافظ ابن أبي شيبة باب إعطاء الدراهم في زكاة الفكر (3/174) فروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري، وأبي اسحاق، حيث قال: (أدركتهم وهم يعطون في صدقة الفطر الدراهم بقيمة الطعام) وهذا القول من هذا التابعي الذي أدرك عليًا وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، يدل على أن دفع النقود (أي القيمة) كان شائعًا في ذلك العصر، وفي خير القرون قرن الصحابة.
وقد ألف في هذه المسألة أحد علماء اليمن – وهو الحافظ أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، صاحب المؤلفات المشهورة – في القرن الرابع عشر كتابًا رائعًا سماه: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال، نشره الشيخ نظام يعقوبي، حيث ذكر آراء كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء في مختلف العصور مع الأدلة المعتبرة، فقال في ص 47-48: (فمن كان مقلدًا فحسبه تقليد هؤلاء الأئمة ولو من غير مذهبه..، فهذا جائز في كل المذاهب، وأما من كان من أهل العلم والنظر وقبول الحجة والدليل فليعلم أن استدلالنا لهذه المسألة من وجوه) ثم سردها، ومنها: (أن أخذ القيمة في الزكاة (أي في زكاة المال) ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة في عصره، وبعد عصره) ثم سرد الأسانيد المقبولة لإثبات ذلك.
ثم إن هذا الرأي إذا كان بعض العلماء المعاصرين لم يأخذوا به مثل الشيخ ابن باز، وابن عثيمين رحمهما الله، ومعظم علماء السعودية، فإن جمهور المعاصرين أمثال شيوخ الأزهر السابقين في القرن السابق، ومعظم علماء العراق والشام، وفلسطين قد قالوا به، واختاره بقوة فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة (2/948-951)، بل إنه صدرت فتوى جماعية من الندوة السادسة لقضايا الزكاة المعاصرة التي عقدت في الشارقة عام 1996 نصت على أنه: (ويجوز إخراج زكاة الفطر نقدًا بقيمة الواجب، ويمكن للجهات المعنية تقدير هذه القيمة سنويًا).
هذا والله أعلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم