التوّرق كما أجازه المجمع (التوّرق المنضبط)، والتوّرق المصرفي المنظم الذي منعه.
التحايل على الربا أشد عند الله تعالى من الربا المجرد.
السؤال: فضيلة الشيخ الدكتور علي محيى الدين القره داغي يحفظه الله،،،،، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
حاليًا أن أقوم ببناء منزل للسكن، وأحتاج إلى المال لإتمام عملية البناء بشكل كامل، لذلك أستفسر من فضيلتكم عن التورق في الأسهم أي أن البنك الإسلامي يشتري الأسهم لي وأبيعها وأحصل على المبلغ. لذلك أفدني جزاك الله خيرًا.
السائل: ر.ع. هـ
الجواب:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
التورق أثير حوله جدل وجاءتني أسئلة كثيرة واستفسارات متنوعة، وفي كل يوم تصلني عدة أسئلة، ولذلك سأفصل فيه القول، من حيث التعريف والفرق بين التورق المنضبط الذي أجازه المجمع، والتورق المصرفي المنظم الذي صدر في شأنه قرار في المجمع بالتحريم، وخطوات التورق المشروع.
التورق كما أجازه المجمع (التورق المنضبط):
أجاز التورق مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة 11 ـ 16 رجب 1423هـ الموافق 31/10/1988م، وهذا نص قراره:
((وبعد التداول والمناقشة، والرجوع إلى الأدلة، والقواعد الشرعية، وكلام العلماء في هذه المسألة قرر المجلس ما يأتي:
أولاً: أن بيع التورق: هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع، للحصول على النقد (الورق).
ثانيًا: أن بيع التورق هذا جائز شرعًا، وبه قال جمهور العلماء، لأن الأصل في البيوع الاباحة لقول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرَّم الربا) ولم يظهر في هذا البيع ربًا لا قصدًا ولا صورة ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين، أو زواج أو غيرهما.
ثالثًا: جواز هذا البيع مشروط، بأن لا يـبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة، فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة، المحرَّم شرعًا، لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدًا محرمًا.
رابعًا: إن المجلس: ـ وهو يقرر ذلك ـ يوصي المسلمين بالعمل بما شرعه الله سبحانه لعباده من القرض الحسن من طيب أموالهم، طيبة به نفوسهم، ابتغاء مرضاة الله، لا يتبعه منّ ولا أذى وهو من أجل أنواع الاتفاق في سبيل الله تعالى، لما فيه من التعاون والتعاطف، والتراحم بين المسلمين، وتفريج كرباتهم، وسد حاجاتهم، وإنقاذهم من الإثقال بالديون، والوقوع في المعاملات المحرمة، وأن النصوص الشرعية في ثواب الإقراض الحسن، والحث عليه كثيرة لا تخفى كما يتعين على المستقرض التحلي بالوفاء، وحسن القضاء وعدم المماطلة.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربّ العالمين)).
وبما أنني كنت صاحب بحث التورق الذي كلفني به المجلس برئاسة العلامة الشيخ عبدالله بن باز ـ يرحمه الله رحمة واسعة ـ، وتشرفت بإلقائه ومناقشته وكنت مقررًا للجنة صياغته، أود أن أوضح رأي المجمع الموقر في هذه المسألة وشروط إجازة التورق وضوابطه كما تظهر من نص القرار، وهي:
1/ أن يتم فعلاً شراء سلعة موجودة في حوزة البائع وملكه.
وهذا شرط أساسي، بل ركن أساسي لكل البيوع، ولذلك أدخله المجمع في ماهية التورق وتعريفه.
2/ أن يتم البيع الثاني من قبل المشتري لغير البائع.
وهذا أيضًا ركن أساسي آخر، ولذلك ادخله المجمع في ماهية التورق وتعريفه.
3/ أن لا يظهر في هذا البيع ربا لا قصدًا ولا صورة.
4/ أن لا يؤدي إلى بيع العينة، حيث نصًّ في الفقرة الثالثة على أن: (جواز هذا البيع مشروط بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة، ولا بالواسطة فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة المحرم شرعًا، لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدًا محرمًا).
ونحن في هذه العجالة نذكر التأصيل الشرعي لهذه الأركان الأربعة التي تناولها قرار المجمع والتي ذكرتها بإيجاز في البحث المقدم إلى المجمع الموقر.
الشرط الأول: أن يتم شراء سلعة على سبيل الحقيقة وأن تكون هذه السلعة في حيازة البائع الأول وملكه.
والبائع هنا في العمليات المصرفية هو المصرف، والمشتري هو العميل، وهذا يعني أن المصرف حينما يبيع البضاعة للمشتري المتورق لا بد أن تكون عنده البضاعة أي اشتراها من قبل، وحازها الحيازة الشرعية.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن المصارف الإسلامية ليست عندها البضائع والسلع وإنما يشتريها من طرف آخر، إذن فالعملية تتم من ثلاثة عناصر:
1/ مالك البضاعة، أو السيارة أو العقار وهذا هو البائع الأول.
2/ المصرف الذي يشتري بنقد بعد ترتيب الوعود والاتفاقية مع العميل، وهو المشتري الأول والبائع الثاني بالنسبة للعميل.
3/ العميل الذي يشتري البضاعة من البنك بنسيئة وبمبلغ أكبر من المبلغ الذي اشتراها به وهو المشتري الثاني للبضاعة نفسها، وبما أنه يريد التورق فهو يبيع البضاعة، فهو إذن البائع الثالث.
وبعبارة أخرى فالعملية تتم من ثلاث عمليات:
العملية الأولى: عقد شراء البنك البضاعة من مالك البضاعة بثمن نقد (مائة ألف ريال مثلاً).
العملية الثانية: بيع البنك البضاعة للعميل نسيئة بثمن أكبر من الثمن الأول (مائة وعشرة آلاف ريال مقسطة على اثني عشر شهرًا).
العملية الثالثة: بيع العميل البضاعة لغير المالك الأول أو الثاني بثمن نقد أقل من الثمن الذي اشترى به من البنك (أي بمائة ألف أو أقل) أما لو باعها إلى المالك الأول، أو الثاني فيكون بيع العينة المحرم شرعًا، وصدر بحرمته قرار من المجمع نفسه.
فبعض البنوك أو الفروع الإسلامية ترتب ذلك من خلال عقود صورية فتأخذ 10% مثلاً في مقابل تأجيل الثمن، والبائع الأول المالك يأخذ 1% مثلاً في مقابل هذه العملية الصورية، وفي الأخير عادت البضاعة إلى المالك الأول، وبعبارة دقيقة بقيت البضاعة في مكانها دون أن تتحرك، ولكن أجريت عليها مجموعة من العمليات الصورية للوصول إلى أن يحصل العميل على مبلغ مائة ألف في مقابل مائة وعشرة آلاف ريال، أو أحد عشر ألفًا والحقيقة أن البضاعة لم تشتره ولم يتم بيعها، وإنما كما قال ابن عباس في مثل هذه العقود الصورية: (درهم بدرهم وبينهما حريرة)[1] أي مائة ألف بمائة وعشرة آلاف ريال بينهما سيارة أو بضاعة، أو نحو ذلك.
والغالب الذي جرى عليه العمل في بعض البنوك أو الفروع الإسلامية هو أن يكون البنك الإسلامي وكيلاً عن العميل المتورق، وحينئذٍ ليس على العميل إلاّ أن يوقع مجموعة من الأوراق، ثم يأتي بعد يومين ليستلم المبلغ المطلوب وهو مائة ألف في مقابل دين مقسط عليه بمائة وعشرة آلاف ريال، بل الأدهى من ذلك أن يقوم البنك بهذه العمليات عن طريق المرابحات الدولية التي هي معظمها محل إشكال كبير، وشبهات كثيرة حول وجود البضاعة، وحيازتها وكيفية بيعها عن طريق البنوك الخارجية، ثم تضاف إليها مشكلة التورق لتضاف إلى كل هذه الشبهات المثارة شبهة التورق.
ومن المتفق عليه بين العلماء أن هناك مجموعة من المبادئ والقواعد العامة التي تحكم العقود في الفقه الإسلامي لا بد من رعايتها لصحة العقد، من أهمها:
1/ عدم جواز بيع ما ليس يملك، حيث ورد في ذلك مجموعة من الأحاديث بألفاظ مختلفة منها ما رواه أصحاب السنن الأربعة، وأحمد، والبيهقي وغيرهم بسندهم عن حكيم بن حزام قال: ((يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي فأبتاعه له من السوق؟ فقال: (لا تبع ما ليس عندك))[2].
والحديث حكم بصحته بعض نقاد الحديث، وبحسنه الآخرون [3].
وفي لفظ آخر صحيح: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي)[4]، وفي لفظ آخر عن طريق عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع ….. ولا بيع ما ليس عندك) [5]، وهو حديث صححه النقاد[6].
فالحديث برواياته الصحيحة يدل بوضوح على عدم جواز بيع ما لا يملكه الإنسان ولا يدخل في حيازته وملكه، لما فيه من الغرر، لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس هو على ثقة من حصوله، وهذا خاص ببيع المعين، أما بيع السلم فهو مشروع غير داخل في هذا النهي للأحاديث الصحيحة الواردة في مشروعية السلم [7].
2/ عدم جواز بيع شيء إلاّ بعد قبضه وحيازته مع ملاحظة اختلاف الفقهاء في كيفية القبض، وتفاصيله، ولكنه من المتفق عليه[8] أن بيع الشيء قبل قبضه الحقيقي، أو الحكمي (حسب نوعية المحل) غير جائز وغير صحيح، إلاّ ما نقل عن عطاء وعثمان البتي من غير استدلال عليه حتى سماه النووي: قولاً شاذًا، وقال ابن عبد البر: (وهذا قول مردود بالسنة، والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه الحديث، ومثل هذا لا يلتفت إليه) [9].
والعلة في منع ذلك وجود الغرر، وعدم القدرة على التسليم لهلاك المبيع، أو نحوه ولأنه قد لا يسلم البائع الأول المبيع للمشتري الأول، ولا سيما إذا رآه قد ربح فيسعى في رد البيع إما بجحد أو باحتيال في الفسخ، إضافة إلى ربح مالم يضمن، وبيع مالم يضمن حيث لم يدخل المبيع في ضمان المشتري حيث ضمانه على البائع قبل القبض والتسليم، فإذا باعه بربح فقد تحقق قبل الضمان، والنهي ثابت عن ربح مالم يضمن[10]، وكذلك احتمال الربا ولا سيما في الربويات، كما قال ابن عباس: (ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ)[11].
ومن هذا يتبين أن مراعاة القبض الحقيقي، أو الحكمي ضرورية لصحة عقود المعاوضات ولا سيما البيع.
والأزمة المالية العالمية أثبتت أهمية هذين المبدئين السابقين حيث تعود معظم أسبابها إلى عدم رعايتهما في الصفقات الدولية والتجارة الالكترونية حتى بلغ حجم التعامل إلى أكثر من 650 تريليون قبل الأزمة، وكانت نسبة العقود الحقيقية منفذة على شيء حقيقي 5% فقط، ولذلك انهارت اقتصاديات معظم الدول.
الشرط الثاني: أن يتم البيع الثاني من قبل العميل المشتري لغير البائع الذي يشمل المصرف مباشرة، والبائع الأصلي الذي باع للمصرف بالواسطة، وهذا ما صرح به قرار المجمع في الفقرة الأخيرة التي جعلناها الشرط رقم (4) حيث نص على حرمة النوعين صراحة.
والمقصود من هاتين الفقرتين أن لا يؤدي التورق إلى بيع العينة المحرم شرعًا وهو في حقيقته قرض لكنه في صورة البيع لاستحلال الزيادة حيث بيع شخص سلعة لآخر بثمن مؤجل ثم يشتريها نقدًا بثمن أقل، والفرق بين الثمنين هو الربا المحرم، وأن العملية تؤول إلى قرض عشرة لرد خمسة عشر، وما البيع إلاّ حيلة ووسيلة صورية إلى الربا، ولذلك قال محمد بن حسن الشيباني: (هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، اخترعه أكلة الربا، وإلى حرمته ذهب جماهير الفقهاء إلاّ ما نقل عن الشافعي الذي نظر إلى ظاهر العقد وتوافر أركانه فقال بصحته)[12].
وقد حررت محل النـزاع فوجدت أنه لا خلاف بينهم في حرمة بيع العينة إذا أراد المتبايعان منه الوصول إلى الربا، وإنما الخلاف في الصحة والفساد [13].
فالعينة إن هي إلاّ ربا تحت مظلة البيع، والعبرة بالحقائق لا بالألفاظ الظاهرة، ويدل على ذلك ما رواه الأوزاعي مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع)[14]، قال ابن القيم: (وهذا الحديث وإن كان مرسلاً لكنه صالح للاحتجاج به بالاتفاق، لأنه من المسندات ما يشهد له …….)[15].
وقد دلت مجموعة من الأحاديث تنهض بمجموعها حجة على حرمة بيع العينة، إضافة إلى الأحاديث الصحيحة الدالة على حرمة التحايل [16].
ولا يختلف الحكم فيما لو توسط البنك بين العميل والبائع الأول، لأن النتيجة واحدة كما صرح بذلك قرار المجمع الفقهي السابق.
الشرط الثالث: أن لا يظهر في التورق ربا لا قصدًا، ولا صورة (أهمية القصود)
وهذا الشرط يجعل أساس العقود القصود، وهو قاعدة من القواعد الكلية التي بنى عليها الفقه الإسلامي، وهي: (الأمور بمقاصدها)[17] وتدل على اعتبارها مجموعة من الآيات والأحاديث من أظهرها الحديث الصحيح المتفق عليه: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر أنواع الحيل: (فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا.. ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة ذكرنا منها من نحو ثلاثين دليلاً…)[18] ويقول ابن القيم: (وتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم” كيف حرم على المحرم الأكل مما صاده الحلال إذا كان قد صاده لأجله؟ فانظر كيف أثر القصد في التحريم ولم يرفعه ظاهر الفعل.. فهذه النصوص وأضعافها تدل على أن المقاصد تغير أحكام التصرفات من العقود وغيرها..)[19].
التواطؤ على قلب الدين من خلال التورق:
وذلك بأن يكون الشخص مدينًا للبنك مثلاً بديون حلّت وهو قادر على الأداء، فيأتي للبنك ويشتري منه سلعة أو عقارًا ببيع آجل، ثم يبيعها لطرف آخر لسداد ديون البنك، ويكون ذلك بتواطؤ واضح، فهذا غير جائز، لأنه داخل في صور قلب الدين عند جمهور الفقهاء، وبخاصة عند المالكية لما في ذلك من مخالفة لقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)[20] .
ومسألة القصود لها علاقة وثيقة بمسألة سد الذرائع، وهي مقصود للشارع الحكيم، فكل ما يفضي إلى الحرام فهو حرام وإلاّ فلا يتم تحقيق ذلك يقول القرافي: (سد الذرائع ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها … القاعدة أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم)[21]، ويقول الشاطبي: (قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة..، والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع … فكل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل) ثم ذكر أدلة كثيرة على بطلان هذه المناقضة والحيل بالآيات والأحاديث الكثيرة [22].
ويقول ابن القيم: (ولما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلاّ بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها …. فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ….، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك… وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلاّ فسد ما يرومون إصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها….)[23]ثم ذكر ابن القيم تسعة وتسعين وجهًا ودليلاً على وجوب سد الذرائع وعلى أن الوسيلة إلى المحرم محرمة [24]، ثم قال: (وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فأين من يُمنع من الجنائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله وأسقط فرائضه بالحيل كقوله: (لعن الله المحلل والمحلل له)[25]وقوله: (لعن الله اليهود حرمت عليها الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها)[26] وقوله: (لعن الله الراشي والمرتشي…)[27].
وقد قرن بينهما ـ أي بين الواصلة والمستوصلة وبين آكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له في حديث ابن مسعود، وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الأصناف وهو التدليس والتلبيس، فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس فيها، والمحلل يظهر من الرغبة ما ليس عنده، وآكل الربا يستحله بالتدليس والمخادعة فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يستحل الربا في البيع، وذلك يستحل الزنا باسم النكاح، فهذا يفسد الأموال، وذاك يفسد ما ليس في قلبه، وأخبر أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم … وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة، وهذه الأوصاف منطبقة عليهم فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه، ولهذا يقال (طريق خيدع) إذا كان مخالفًا للقصد لا يفطن له، ويقال للسراب (الخيدع) لأنه يخدع من يراه ويغره، وظاهره خلاف باطنه …. وتلخيص هذا أن الحيل المحرمة مخادعة لله، ومخادعة الله حرام، أما المقدمة الأولى، فإن الصحابة والتابعين ـ وهم أعلم الأمة بكلام الله ورسوله ومعانيه ـ سموا ذلك خداعًا. وأما الثانية: فإن الله ذم أهل الخداع وأخبر أن خداعهم إنما هو لأنفسهم، وأن في قلوبهم مرضًا وأنه تعالى خادعهم … فهذه الحيل لا يحل لمسلم أن يفتي بها في دين الله تعالى، ومن استحل الفتوى بهذه فهو الذي كفره الإمام أحمد وغيره من الأئمة حتى قالوا: إن من أفتى بهذه الحيل فقد قلب الإسلام ظهرًا لبطن، ونقض عرى الإسلام عروة عروة …) [28].
فالحق أن الحيل المؤدية إلى حرامٍ حرامٌ [29]، وأن الوسيلة إلى المحرم مهما كانت وتحت غطاء أي اسم وفي ظلال أي مصطلح فهي محرمة، وأن القصد غير المشروع الذي ظهر من خلال القرائن، والذي يؤدي بالفعل إلى المحرم فهو حرام باطل ويجعل العقد باطلاً. والقضاء الإسلامي يمكنه الوصول إلى ذلك من خلال الظروف والملابسات التي تحيط بالعقد فعلى هذا لا يترتب على هذا الترجيح قلقلة التعامل واضطرابه، لأننا لا نقول بالاعتماد على القصود التي لم تظهر، ولا الاعتماد على الأوهام والظنون، وإنما لا بد أن يكون هذا القصد السيء ظاهرًا من خلال الشروط التي تدخل العقد، أو المساومة السابقة عامة، أو من طبيعة العقد والظروف التي تحيط به كما في عقدي التحليل والعينة والحيل المكشوفة الأخرى للوصول إلى المحرمات.
فهذا التورق يسمى التورق المصرفي المنظم الذي صدر بشأنه قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، قرار رقم (179 (5/19)، وهذا نصه:
[أولاً: أنواع التورق وأحكامها:
(1) التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقدًا بثمن أقل غالبًا إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد. وهذا التورق جائز شرعًا، شرط أن يكون مستوفيًا لشروط البيع المقررة شرعًا.
(2) التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (المموّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالبًا.
(3) التورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل.
ثانيًا: لا يجوز التورقان (المنظم والعكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤًا بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمنًا أو عرفًا، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا.
ويوصي بما يلي:
(أ) التأكيد على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية باستخدام صيغ الاستثمار والتمويل المشروعة في جميع أعمالها، وتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة التزامًا بالضوابط الشرعية بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء، ويجلي فضيلة الاقتصاد الإسلامي للعالم الذي يعاني من التقلبات والكوارث الاقتصادية المرة تلو الأخرى.
(ب) تشجيع القرض الحسن لتجنيب المحتاجين للجوء للتورق. وإنشاء المؤسسات المالية الإسلامية صناديق للقرض الحسن. والله أعلم ].
أما التورق المنضبط بضوابط الشرع الذي صدر بإجازته قرار من المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي فهو التورق الذي توافرت فيه الشروط الأربعة، وروعي فيه التسلسل الشرعي للعقود الثلاثة، فهذا يدل على جوازه أدلة من الكتاب والسنة والقياس لا يسع المجال لذكرها هنا.
هذا والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(1) يراجع شرح ابن القيم على سنن أبي داود ( 9/345) ونيل الأوطار (6/363)، وإعلام الموقعين ( 3/112)
(1) يراجع سنن أبي داود مع عون المعبود (9/401) الحديث رقم 3486، والترمذي ـ مع تحفة الأحوذي ـ (4/430 ـ 433) الحديث رقم 1250، والنسائي الحديث رقم 4612، وان ماجه الحديث رقم 2187، وأحمد (3/402)، والبيهقي (5/267)، والمعجم الكبير للطبراني بعدة طرق، الأحاديث: 3097، 3098، 3099، 2102، 3103، 3143، ومصنف عبد الرزاق الحديث رقم 14212.
(1) حكم بصحته ابن حزم في المحلى (9/595)، والنووي في المجموع (9/259)، وحكم بصحته أيضًا الألباني في الإرواء الحديث رقم 1292 وغيرهم، وحسنه الترمذي (4/433).
(1) رواه الترمذي ـ مع تحفة الأحوذي ـ (4/430ـ434)، وأحمد (3/402)، والطبراني بأكثر من سند، الأحاديث: 3100، 3101، 3104، 3105) والبيهقي (5/339)، وحكم بصحته الترمذي فقال: (حديث حسن صحيح)، ووافقه الألباني في الإرواء (5/7ـ8)
(3) رواه أبو داود في سننه ـ مع عون المعبود ـ (9/402)، والترمذي مع التحفة (4/431)، والنسائي (7/288)، وابن ماجه (2/737)، والحاكم في المستدرك (2/17) وغيرهم.
(4) صححه الترمذي (4/433)، وابن حبان في موارد الضمآن الحديث 1108، والحاكم (2/17) ووافقه الذهبي، كما صححه ابن حزم في المحلى ( 9/595)، والآليات في صحيح الجامع الصغير الحديث 7644 .
(5) انظر تفصيل ذلك: د. علي القره داغي: بحثه: (لا تبع ما ليس عندك، سنده وفقهه) المطبوع ضمن بحوث في فقه المعاملات المالية المعاصرة، ط. دار البشائر الإسلامية ببيروت (ص62) وما بعدها.
(6) يراجع في تفصيل ذلك: بدائع الصنائع (7/3100)، وحاشية ابن عابدين (4/162)، والمدونة (9/90)، وحاشية الدسوقي (3/151)، والأم للشافعي (3/60)، والمجموع (9/264)، والمغني لابن قدامة (4/121)، ويراجع د. علي القره داغي: بحثه عن القبض وصوره المعاصرة، المقدم إلى الدورة السادسة (ص46 ـ 47).
(7) المجموع للنووي (10/170)، ويراجع المحلى لابن حزم (8/520)
(1) روى النسائي في سننه (7/295) والترمذي ـ مع تحفة الأحوذي ـ (4/431)، وابن ماجه (2/738)، والحاكم في المستدرك (2/17) وصححه ووافقه الذهبي، بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح مالم يضمن، وفي بعض الروايات: (لا يحل سلف وبيع ….. ولا ربح مالم يضمن).
(2) يراجع: الاختيارات الفقهية (ص75)
(3) يراجع فتح القدير ـ مع شرح العناية ـ (5/208)، والفتوى الهندية (3/208)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/76)، والخرشي (5/105)، والأم (3/34،68)، والروضة (3/416)، والمجموع (9/374)، والمغني لابن قدامة (4/62)، ومجموعة الفتاوى لابن تيمية (29/30)، وأعلام الموقعين (3/128)
(1) يراجع لمزيد من البحث: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة، ط.دار البشائر الإسلامية ببيروت (2/1231)
(2) شرح ابن القيم على سنن أبي داود (9/345)، ونيل الأوطار (6/363)
(4) يراجع لتحقيق هذه الأحاديث: مبدأ الرضا في العقود، ومصادره المعتمدة (2/1227 ـ 1238)
(5) يراجع: الأشباه والنظائر للسيوطي (ص9)، والأشباه والنظائر لابن نجيم (ص27)
(1) مجموع الفتاوى (29/28 ـ 29)
(2) الحديث رواه أصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، انظر سنن أبي داود مع العون (5/303)، والترمذي مع التحفة (3/584)، وابن ماجه (2/1032)، والدارمي (1/369)
([20]) سورة البقرة / الآية 280
(3) المصدر السابق ( 3/135 ـ 159)
(4) رواه أبو داود في سننه ـ مع عون المعبود (6/88)، والترمذي ـ مع التحفة ـ (4/262)، وابن ماجه (1/622)، والدارمي (2/81)، وأحمد ( 11/ 450 ـ 451)
(5) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (6/469)، ومسلم ( 3/1207)
(1) رواه الترمذي في سننه مع التحفة، كتاب الأم (4/565)، وأبو داود في سننه مع العون، كتاب الأقضية (9/495)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام (2/755)، وأحمد في مسنده (2/164، 190)
(2) اعلام الموقعين (3/159 ـ 176)
(3) وقد عقد الإمام البخاري كتابًا في صحيحه لحكم الحيل وذكر الأحاديث الكثيرة الدالة على تحريم الحيل المؤدية إلى الحرام فليراجع صحيح البخاري مع الفتح (12/326 ـ 351)، ويراجع في القصود: د. عبدالكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية،ط.مؤسسة الرسالة ومكتبة القدس 1369 هـ (ص267)